للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[قصة أخرى لرجل من بني إسرائيل]

الحمد لله، الحمد لله ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقدوة الناس إلى الله رب العالمين , وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أيها الناس! يلاحظ رسول الهدى صلى الله عليه وسلم القصص الحق، قصص التائبين، قصص الذين أذنبوا وأخطئوا وأجرموا ثم عادوا إلى الله.

وفي قصة أخرى يتحدث رسولنا صلى الله عليه وسلم إلى الصحابة، يتحدث إليهم عن رجل كذلك من بني إسرائيل-والحديث صحيح سنده كنجوم السماء- يتحدث إليهم عن رجل أذنب ذنباً عظيماً، وهو موحد لم يشرك بالله، ولكن أخطأ وعصى الله وأساء فيما بينه وبين الله، ونحن أهل السنة والجماعة لا نكفر الناس بالذنوب، إنما يكفرهم الخوارج الذين لا يفقهون إلا قليلاً ولا يفقهون.

أذنب هذا الرجل، وما ترك معصية إلا ارتكبها، شرب الخمر وزنى وقتل وسرق، كذب وغش ونم واغتاب، أساء كل الإساءة، ضيع عمره، أعجب بنفسه فتكبر واغتر، فلما حضرته ساعة الصفر، سكرة الموت الذي كنت منه وكان العبد منه يحيد بالطب وبالاستشفاء، حضرته هذه السكرة والجلسة والمصرع -الذي نسأل الله أن يعيننا وإياكم عليه- ساعة الموت يذل فيها المتكبر، ويذعن فيها الجبار، ويستسلم فيها القوي، ويفتقر فيها الغني، ساعة الموت تذهب فيها العزيمة والإرادة، ساعة الموت تتفتت الصخور والعزائم، وتتقطع الحبال ولو كانت من حديد، ساعة الموت ينسى الحبيب حبيبه، وينسى القريب قريبه، والصاحب صاحبه، والولد أباه، والأب ولده، والأم ابنها، ساعة الموت ما أعفي منها أحد، أخذت رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أخشى الناس، وأصدقهم وأعلمهم وأبرهم وأكرمهم وأكرم الناس، فأخذ يقول وهو في سكرات الموت: {لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، لا إله إلا الله، اللهم هون علي سكرات الموت، لا إله إلا الله، اللهم خفف علي سكرات الموت}.

فلما حضرت الوفاة ذاك الرجل جمع أبناءه، وأصبحوا أمامه في ساعة لا ينفع فيها الولد، ولا ينفع فيها المال ولو كانت قناطير مقنطرة، ولا ينفع فيها المنصب ولو كان منصب فرعون، يأتي ويدس الملك كالفقير في قطعة قماش، والحساب عند الله تعالى، يأتي الغني الذي ملك القناطير المقنطرة ويحمل على أكتاف الرجال، لا يحمل درهماً ولا ديناراً ولا خميصةً ولا قطيفةً.

فجمع أبناءه وقال: أي أبٍ لكم أنا؟ قالوا: من خيرة الآباء، قال: فوالذي نفسي بيده، ما فعلت مع الله جميلاً أبداً، عصيت، وتعديت حدود الله، واقترفت معاصي الله، وتطاولت على حرمات الله، فإذا أنا مت، فاجمعوا لي حطباً، ثم أشعلوا هذا الحطب، فإذا أصبحت ناراً عظيمةً فاجعلوني في النار.

هذا على دين الهندوس أهل الهند، حرق الجثث وتذريتها والتبرك بآثارها، فسحقوه، وذروه في الريح، لكنه موحد، إنما اقترح هذا الاقتراح لأنه ظن أنه سوف يفوت على الله.

سبحان الله! أين يفلت من حساب الله؟ الذي أتى بالإنسان من نطفة فجمعه ثم كونه ثم خلقه، ثم أسمعه وبصَّره، ثم رزقه، ثم يحاسبه يوم القيامة، قال الله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:٢] {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:٧٨ - ٧٩].

فلما توفي أخذوا جثمانه وجمعوا الحطب وأشعلوا له ناراً مدلهمة، ووضعوه في النار، فأكلت جسمه حتى أصبح فحماً حمماً فسحقوه ثم اعترضوا به الريح، فأخذته الريح الهوجاء، فتفرقت به في كل مكان ووزعته على الأنهار وعلى رءوس الأشجار وفي الجبال وفي السهول، لكن الذي بدأه أول مرة أمره في قول: كن فيكون {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:٤٠] فقال الله: كن رجلاً، فكان رجلاً في لحظة، في أقل من طرف العين، جمع وأصبح رجلاً بعيونه وآذانه وسمعه وبصره، بشحمه ودمه وعظامه وأعصابه، وجمع الله ملائكته للحساب، وقال: يا عبدي! ما حملك على ما صنعت؟ لماذا أوصيت بنيك بهذه الوصية؟ لماذا فعلت بنفسك هذا الفعل؟ أما علمت أني أغفر الذنب وأستر العيب وأتجاوز عن المسيء؟ قال: يا ربي -ما أحسن الكلمة! اسمع- قال: يا ربي خفتك وخشيت ذنوبي.

فقال الله: يا ملائكتي! أشهدكم أني قد غفرت له وأدخلته الجنة.

ما دام أنه خاف موعودي ولقائي والحساب بين يدي ونكالي وناري، فقد غفرت له وأدخلته الجنة، فدخل الجنة.

وهذا يعرض لكل الناس، شريعة تبلغ في المجالس وفي الأندية، لأننا في عصر كثرت فيه المعاصي والجرائم، كثر التخلف والإعراض عن رحمة الله، فإذا وقفنا بباب التشاؤم أمام الناس، وقلنا لهم: ويلكم من الله فحسب، وعرضنا لهم النار فقط، ولم نعرض لهم الجنة، يئسوا من رحمة الله، وتمردوا على الله وأعرضوا عن باب التوبة إلى الله، لكن حقاً علينا أن نخبرهم برحمة الله ولطفه ورعايته وحفظه، ولا ننسى أن الله شديد العقاب، ولا ننسى أن الله أعد ناراً وجحيماً، وأعد نكالاً وسلاسل وأغلالاً.

نعم.

إنه رحمان ورحيم، لكنه شديد العقاب.

عباد الله: يقول المتكلم والسامع: من اقترف منا ذنباً فليتب إلى الله، اللهم إنا نشهدك في هذه الساعة الفضيلة المباركة النبيلة أننا تبنا إليك، أسأنا وأخطأنا وتعدينا حدودك وانتهكنا حرماتك، أكلنا رزقك وما شكرناك، وأكلنا عطاءك وما استخدمناه في طاعتك، وأسأنا كثيراً، وضيعنا أوقاتنا، أذنبنا كل الذنب، وأخطأنا كل الخطأ، وأسأنا كل الإساءة، ومن يغفر الذنوب إلا أنت، ومن يستر العيوب إلا أنت، اللهم فاغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وتقبلنا فيمن تقبلت، اللهم تقبل منا أحسن ما عملنا، وتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.

من يفتح لنا الباب إذا أغلقته؟ ومن يرفع لنا الحجاب إذا أسدلته؟ ومن يعطينا من العطاء إذا منعته؟ اللهم فارفع لنا باب التوبة واجعله لنا مفتوحاً، وأسدل علينا من منِّك وكرمك واجعل لنا منه عطاءً ممنوحاً، اللهم صل على نبيك وحبيبك الذي بعثته رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أيها الناس! صلوا وسلموا عليه، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:٥٦] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صل على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم لما تحبه وترضاه، اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما كانت الوفاة خيراً لنا.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>