للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[سند الحديث وتفنن البخاري في التبويب]

أولها: سند هذا الحديث.

البخاري رحمه الله تعالى تفنن في كتابه، مرة يعيش معك في الأحكام، وهذا هو أسلوب الكتاب الكريم، فإن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى تعرض للأحكام والأخبار، وللقصص والآداب والسلوك، يتحدث القرآن معك في الطلاق، وأنت في موضوعات الطلاق وإذا به ينتقل بك إلى اليوم الآخر، ويوم أن يعيش بك في اليوم الآخر والعرض والحساب والحوض والصراط والميزان، والناس يهرعون، أعمالهم شتى، فريق في الجنة وفريق في السعير، وإذا بالقرآن يعود بك إلى الحدائق الغناء في الدنيا، ويتحدث لك عن البساتين ومن خلقها، وعن النجوم ومن أبدعها، وعن السماء ومن رفعها، وعن الصور ومن صورها.

وأنت معه في هذه الصور والملامح وإذا به ينتقل بك إلى ساح الجهاد، وعن المجاهدين والشهداء وماذا أعد الله لهم، وبعد أن ينتهي يتحدث عن أهل العلم وماذا ينبغي لهم، وعن الصلحاء والأخيار.

وأتى البخاري فتناول كتابه على أسلوب القرآن، فعندما بدأ بدأ بالإيمان، ثم العلم، ثم الأحكام، ثم أتى بالرقائق والزهد والسلوك والفتن والملاحم واليوم الآخر، فكان بحق أعجب كتاب بعد كتاب الله عز وجل، حتى أن ابن تيمية سأله سائل: دلني على كتاب قال: لا أعلم كتاباً ينفعك بعد كتاب الله كـ صحيح البخاري.

فيقول البخاري: (باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخليهم من الدنيا) ثم يقول: حدثنا أبو نعيم وأبو نعيم شيخ البخاري، اسمه: الفضل بن دكين وأبو نعيم إذا ذكر في السيرة وفي السنة فهما رجلان: أبو نعيم الفضل بن دكين صاحبنا هذه الليلة، وأحمد بن عدي صاحب الحلية، وهو في القرن الرابع، أما هذا الرجل فهو ثبت خير زاهد عابد، سرد الصيام ما يقارب أربعين سنة، وعمي في آخر عمره من كثرة ما بكى من خشية الله في الليل، ومع حفظه للحديث وزهده وعبادته كانت فيه دعابة ومزح، وكان خفيف الروح؛ ولذلك يقول ابن كثير: إن المحدثين فيهم خفة روح.

يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء: طرق على أبي نعيم طارق ذات يوم، فقال أبو نعيم: من؟ قال: أنا رجل.

قال أبو نعيم: ممن؟ قال: من ذرية آدم، ففتح أبو نعيم الباب وقال: ما ظننت أنه بقي لآدم ذرية، فحياك الله يا ذرية آدم.

وعمر بن ذر هو الزاهد، شيخ أبي نعيم، ومجاهد بن جبر أكبر من فسر كتاب الله عز وجل بعد ابن عباس، ولذلك يقول: عرضت القرآن ثلاث مرات في الحرم على ابن عباس من أوله إلى آخره، أوقفه عند كل كلمة أسأله عن معناها.

قال سفيان الثوري: إذا أتاك التفسير عن مجاهد فحسبك به.

أي: إذا سمعت أن مجاهداً فسر آيةً فلا تتجاوز تفسيره إلى غيره في الجملة.

يقول أحد أهل العلم: رأيته فرأيت في وجهه كأنه يريد الله والدار الآخرة، وتذكرت بوجهه خوف الله عز وجل.

أو كما قال.

كان مغرماً بالأسفار، ما سمع ببلد ولا بأعجوبة في الأقطار إلا سافر لها، ولذلك طاف أكثر البلاد الإسلامية، ووصل إلى عدن وإلى آبار هناك، ووصل إلى بابل وإلى البئر التي فيها هاروت وماروت، فإنهم في بابل كما ذكر الله في كتابه {بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة:١٠٢] قال: فلما دخلت وجدت خازنها عند الباب فقلت: ائذن لي أن أدخل.

قال: أدخلك بشرط ألاَّ تتكلم.

قال: فدخلت وأطللت على بئر -وهذا في ترجمته- فوجدت اثنين معلقين بقدميهما ومنكسة رءوسهما في قعر البئر.

قال: فلما رأيت هذا المنظر قلت: سبحان الله! فأغمي عليَّ وعلى صاحبي، ثم استفقت بعد برهة فقال الخازن: أما قلت لك لا تتكلم؟ قال: نسيت.

هذا مجاهد يروي الحديث عن أبي هريرة وساق لنا الحديث، وأبو هريرة يتحدث عن تلك الحال التي عاشها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأورد الحديث هذا لأنه تولى الإمارة في عهد معاوية، أو في عهد مروان بن الحكم، فلما تولى الإمارة كان يأتي في ثياب القطن، وكان يقول: أفطر الخمير، وألبس ثياب القطن، وأنا كنت أهوي بين المنبر وبين المسجد من كثرة الجوع.

فكأنه كان يتذكر تلك الأيام ليقمع عجبه ونفسه أمام الناس.

إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا من كان يألفهم في الموطن الخشن

وإن أولى الموالي أن تواليه عند السرور الذي واساك في الحزن

ولذلك يقولون: من عادة الكرماء أن الله إذا أنعم عليهم ذكروا أيامهم الخالية في الفقر وفي الخشونة والمشقة.

فهو يتحدث للناس عن هذه الأيام التي مرت به رضي الله عنه، وبعض المهاجرين والأنصار على فقرهم كانوا يجدون ما يسدون به رمقهم، لكنه حتى الأكلة الواحدة ما كان يستطيع لها، حتى يقول: [[والله لقد كنت أؤجر ظهري -يحمل الحطب- على الأكلة الواحدة]] وقد مرت هذه بكثير من الصحابة، مرت بـ أبي الحسن أمير المؤمنين، الذكي النابه التقي الزاهد علي بن أبي طالب، يقول وهو يتحدث عن نفسه تواضعاً لله على منبر الكوفة وهو خليفة للمسلمين: [[لقد مر بي يوم من الأيام جعت أنا وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما وجدنا ولو دقل التمر -رديء التمر- قال: فقالت: اذهب فالتمس لنا أكلاً وطعاماً.

فلبست في البرد جبة معي من صوف، وذهبت أسأل الله عز وجل وأستغفره أن يرزقنا -لأن الاستغفار يأتي بعده الرزق- رزقاً حلالاً في ذلك اليوم، فذهبت فتذكرت رجلاً تاجراً من اليهود، له مزرعة في خيبر، فانطلقت فإذا هو يسوق على سانية له، فجمعت نفسي فدخلت مع قائد الماء -المجرى الذي يجري منه الماء- قال: فلما دخلت رآني اليهودي وقال: من أدخلك؟ قلت: أتيت أعمل.

فقال: انزح كل غرب بتمرة.

قال: فقمت أنزح على الجمل كل غرب واحد بتمرة، فلما نزحت ما علم الله من الغروب دعاني فملأ كفيه لي وأعطاني إياه على عدد الغروب.

قال: فذهبت فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته الخبر فتبسم ودعا لي، ثم أكل منه بعض التمر، وذهبت إلى ابنته عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنها، فبارك الله في ذلك التمر فكفانا ردحاً من الزمن]] أو كما قال.

<<  <  ج:
ص:  >  >>