للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[عبد الملك بن مروان عند الموت]

ذكر الذهبي في ترجمة عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي، أنه لما تولى الخلافة، وكان عبد الملك عالماً من العلماء، بل كانوا يعدونه من الفقهاء السبعة في بعض الروايات، فكان فقهياً، عالماً، عابداً، فلما تولى الخلافة سل السيف وسفك دماء الأمة، يقولون: أول ما بويع بالخلافة أخذ كتاب الله عز وجل ثم نشره، ثم قرأ فيه قليلاً ثم طبقه، وقال: هذا آخر العهد بك، قال الذهبي معلقاً: اللهم لا تمكر بنا، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، فأدركه الخذلان -والعياذ بالله- لما مكنه الله في الأرض.

ولذلك لما أتته سكرات الموت بكى طويلاً ونزل من على سرير الملك، ونزل إلى الأرض، فمرغ وجهه في التراب، وبكى وقال: يا ليت أمي لم تلدني! يا ليتني ما عرفت الحياة! يا ليتني ما توليت الخلافة! فسمع وهو في سكرات الموت؛ غسالاً يغسل الملابس، لا يحمل هم الأمة، ولا أي هم، ولا خاف من الظلم ولا الإجحاف، فكان يغني؛ لأن أسعد الناس أهل المهن الحرفية، تجد أحدهم كأنه يملك الدنيا بين يديه، فأنت إذا رأيت الخباز وهو على الفرن يترنم كأنه المتنبي:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم

الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم

فهو يتغنى لأنه ليس على ظهره هموم، مشغلته في يده، فسمع الغسال يترنم، فقال عبد الملك: يا ليتني ما عرفت الحياة! يا ليتني كنت غسالاً! قال سعيد بن المسيب -أحد علماء التابعين- لما سمع هذا الكلام: [[الحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا وقت الممات، ولا نفر إليهم]].

وإنما يتذكر قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:٣٧] لمن عقل وفهم عن الله عز وجل، أما الذي غلبه هواه فهذا لا يسمع الآيات، ولا يستفيد من المواعظ، ولو أسمعته خطب ومواعظ ومحاضرات الدنيا لا يستفيق أبداً.

وبالمناسبة للاستطراد وللطرفة، النساء أغضب ما يغضبهن الشيب، فالمرأة تصاحبك حتى ترى الشيب، فكأنها رأت ثعباناً عليك، يقول حسان:

رأين الغواني الشيب لاح بعارضي فأعرضن عني بالخدود النواضر

فالشيب عدو النساء، ولذلك أخذ بعض الناس السواد وصبغوا به لحاهم، وهذا على الصحيح من أقوال أهل العلم أنه محرم، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: {وجنبوه السواد} والسر في ذلك -كما قال بعض الفقهاء-: أنه يوهم وأن فيه تدليساً، حيث يأتي الرجل عمره ثمانون سنة -شيبة عجوز- ما بقي بينه وبين القبر إلا شبرين أو ثلاثة، فيخطب شابة فتية فتتزوجه فيموت بعد شهرين، قالوا: فيه تدليس، ولأن التدليس أمر محرم فلا يجوز التدليس بالشيب، ويجوز بالورس وبالحناء وبالكتم، وهذا على سبيل الاستطراد.

<<  <  ج:
ص:  >  >>