للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[التفكر موصل للخشية]

في كل شيء لله آية، يقول: تدبروا، وتفكروا في آيات الله، وفكر لا يرزق خوفاً من الله فليس بفكر، ولذلك كان أعظم مراقي التوحيد، وأعظم مقامات العبودية هو: الخوف من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وكان أخوف الناس من الله هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

كل شيء اقتربت منه أمنته إلا الله، فكلما تعرفت عليه خفته: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:٢٨].

يقول إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:٨٢] بعد إخباته إلى الله، وإنابته إلى الحي القيوم يقول من مقام الخوف: أطمع طمعاً شديداً من الله أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين، ولا يجزم جزماً.

ويقول يوسف عليه السلام، بعد أن ملك مصر، وبعد أن جمع مالها وكنوزها، قال وهو يبكي في آخر عمره: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:١٠١] أقصى أمانيه وأعظم ما يرجو أن يلحقه الله إلحاقاً بالصالحين.

واستعرض سليمان عليه السلام قواته وجيوشه من الجن والبشر، ومن الطيور والزواحف، فلما رآها ملأت البر؛ سجد وبكى وقال: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:٤٠].

فالشاهد: أن تفكيراً وتدبراً لا يهديك إلى الخوف من الله، فليس بنافع ولا مفيد، وقد كان صلى الله عليه وسلم من أخوف الناس لله، يقول أبو ذر رضي الله عنه: {نمت عنده صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي، فقام يقرأ، وقال: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم بكى، ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم بكى، ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم ارتفع صوته، وقال: ويل لمن لم يرحمه الله}.

ويقول عبد الله بن الشخير رضي الله عنه: {دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء} -والمرجل: القدر إذا استجمع غلياناً- وهو يبكي من معرفته لله تبارك وتعالى، وكان يحدث الناس عن الله -دائماً- وآياته، ويناديهم بالتزود والقدوم على الله، ويخبرهم أنهم مراقبون من الله، فالله معنا دائماً، وهو فوقنا، سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ يسجل حسناتنا وسيئاتنا: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:٧].

وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان

فاستح من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني

وإذا خلوت بريبة في ظلمة: لا يراك إلا الله، ولا يسجل حركاتك وسكناتك إلا الله.

والنفس داعية إلى الطغيان: تريد الاقتحام على المعصية

فاستح من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني

فأعظم مقامات التوحيد عند أهل السنة والجماعة هو: التفكر، ثم الخوف من الله الجليل.

ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا

فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا

حضرت الوفاة أبا بكر رضي الله عنه، فدخلت عليه ابنته عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فقالت: يا أبتاه! صدق الشاعر:

لعمرك ما يغني النزاء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

]]

فغضب، ونظر إليها، وقال: [[بل كذب الشاعر، وصدق الله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:١٨ - ٢١]]].

فهذا أبو بكر الذي قدم للإسلام كل شيء، فالإسلام كأنه أبو بكر، وكأن أبا بكر هو الإسلام، وكما روى الإمام أحمد في كتاب الزهد: دخل مع الصحابة، ليتنزهوا في بستان من بساتين المدينة، فرأى طائراً على نخلة، فبكى، فقال الصحابة: مالك يا خليفة رسول الله؟ قال: أبكي لهذا الطائر، يأكل من الشجر، ويرد الماء، ويموت، ولا حساب ولا عذاب، فبكوا رضوان الله عليهم.

ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حي

ولكنا إذا متنا بعثنا ويسأل ربنا عن كل شيء

قام هارون الرشيد فحلى قصوره، وزين دوره , وجمع الناس في مهرجان، ثم أدخل عليه الناس أفواجاً أفواجاً، فأتى أبو العتاهية الشاعر الزاهد، فقال له هارون: أمدحت هذا اليوم المشهود؟ قال: نعم.

مدحته، قال: وماذا قلت فيه؟ قال: قلت:

عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور

قال: ثم ماذا؟ قال:

يجري عليك بما أردت مع العشية والبكور

قال: ثم ماذا؟ قال:

فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور

قال: ثم ماذا؟ قال:

فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور

فبكى هارون الرشيد حتى أغمي عليه، وأمر بالزينة أن تخلع.

فيا عباد الله: أعظم المقامات: التفكر في أسماء الله وصفاته، وفي آياته وأيامه، وفي دلائل وحدانيته في الكون، ثم الخوف منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

وما ارتفع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلا بتدبر آيات الله، والتفكر في دلائل وحدانية الله، والخوف من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.

يقول علي رضي الله عنه: [[لا يخافن أحدكم إلا ذنبه، ولا يرجون إلا ربه]] وكانوا رضي الله عنهم دائماً يشعرون برقابة الله، ووحدانيته، ويخافونه سُبحَانَهُ وَتَعَالىَ.

يقول: أسلم مولى عمر: [[خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، بعد أن انتصف الليل، فقال لي: يا أسلم! الحقني فإني أتفقد الناس]] هذا في عام المجاعة -عام الرمادة- يوم أن جاع الناس فجاع عمر معهم، ويوم أن تعب الناس تعب عمر معهم، ويوم أن سهر الناس وسهر عمر معهم.

حسب القوافي وحسبي حين أرويها أني إلى ساحة الفاروق أهديها

فمن يضاهي أبا حفص وسيرته ومن يحاول للفاروق تشبيها

لما اشتهت زوجه الحلوى فقال لها من أين لي ثمن الحلوى، فأشريها؟

خرج رضي الله عنه عام الرمادة، يوم أن وقف يوم الجمعة على الناس، فبكى وأبكى، وسمع قرقرة بطنه، فقال: [[قرقر، أو لا تقرقر، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين]].

أيها المسلمون: عباد الله! انظروا إلى اليهود، وهم أنصار القردة والخنازير، كيف يهاجرون إلى فلسطين! متعاونين متساعدين، متآخين على حرب المسلمين، وانظروا إلى الشيوعيين وأذنابهم، كيف يقومون جبهة واحدة ضد المسلمين، من أفريقيا وآسيا، وروسيا جبهة متآخين لصد زحف الإسلام المقدس، ونحن شيع وأحزاب، أفكار وآراء، الجار يحقد على جاره، والمسلم يغتاب أخاه المسلم، والأعراض تنتهك في المجالس.

فهل هذا دين؟! وهل هذا نصر، أو ظفر؟!

إن كيد مطرف الإخاء فإننا نسري ونغدو في إخاء تالد

أو يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد

أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>