للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تفسير قوله تعالى: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ)

قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:٤٥ - ٤٦] هل الخاشعون يظنون أنهم ملاقو الله؟

الظن أليس فيه شيء من الشك؟ أي أن الظن ليس بيقين!! يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً} [يونس:٣٦] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ} [يونس:٦٦] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:٣٢] فالظن ليس بجزم فكيف يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ويمدح الخاشعين {الَّذِينَ يَظُنُّونَ} [البقرة:٤٦]؟

و

الجواب

أنه من معاني الظن: التيقن، والظن هنا بمعنى العلم واليقين، يقول دريد بن الصمة وهو شاعر جاهلي:

فقلت لهم: ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرج

يقول: قلت لقومي: انتبهوا! يأتيكم غداً ألفان من الأبطال في السراة وفي الخناجر والسلاح، قال: فما أطاعوني فيقول لذلك:

أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد

فهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرج

وهذا شاعر أعمى القلب والبصر، مات كافراً وإلا فهو شاعر جيد، ولكن ما نفعه شعره فالمقصود أنه قال: ظنوا، أي: تيقنوا وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف:٥٣] أي تيقنوا أنهم سوف يصلون النار التي يظنون: يعتقدون.

من الناس من يسمع بأخبار الجنة والنار، وتقول له: هذا المال حرام في الدنيا، فيقول لك: الله غفور رحيم:

خذ ما رأيت ودع شيئاً سمعت به في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل

اتق الله! أجرك في الآخرة وثوابك عند الله، قال: عصفور في اليد ولا عشرة على الشجرة، يعني يقول: ما ندري نموت أو نحيا، إن مت أو حييت لا بد من لقاء الله، وقد قال عز وجل سبحانه: {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:٤٩] وصدق الشاعر:

ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حيِّ

ولكنا إذا متنا بعثنا ويسأل ربنا عن كل شيِّ

فهذا هو الخلاف بيننا وبين الصحابة، الصحابة كانوا ينظرون إلى أن الجنة قريبة منهم حتى نسب إلى علي بن أبي طالب قوله: [[والله لو كشف الله الغطاء، ورأيت الجنة والنار، ورأيت عرش الله بارزاً، ما زاد عندي على ما عندي من الإيمان ذرة]].

الصحابة يأتي أحدهم يقول: يا رسول الله! أين ألقاك يوم القيامة؟ يعني الأمر كأنه غداً، لذلك يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:١٨] قال: يا رسول الله أين ألقاك يوم القيامة؟ والناس في زحام شديد، مليارات من عهد آدم إلى آخر الساعة، أين ألقاك؟ قال عليه الصلاة والسلام: {التمسني في ثلاثة مواطن لا أغادر أحدها: عند تطاير الصحف، أو عند الميزان، أو عند الصراط}.

فالموطن الأول: عند تطاير الصحف:

يقف عليه الصلاة والسلام بنفسه وهو أرفع الناس وأعظمهم منزلة عنده؛ لأنه صادق مخلص وغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيقف ينظر إلينا نحن المساكين ماذا فعلنا؟ فيرى تطاير الصحف فيقول عليه الصلاة والسلام، بأبي وأمي هو: {اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم} ويعرف أمته، فأنت يعرفك أنك من أمته لست من أمة موسى ولا شعيب ولا صالح ولا نوح، ويعرف أنك من أمته بالوضوء، علامة الوضوء تتلألأ عليك:

توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترق أبواب الجنان الثمانية

قيل: {يا رسول الله! كيف تعرف من لم يأت من أمتك بعد؟ قال: أرأيت إنساناً عنده خيل بهم بها خيل بلق ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى، قال: فإن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع أن يطيل غرته فليفعل} أنت من بين الملايين، فيعرفك النبي صلى الله عليه وسلم أنك من أمته وينظر إلى تطاير صحفك ويقول: {اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم} يخاف أن يؤخذ أحد من أمته إلى الشمال، إذا أخذ أحد إلى الشمال فلا إله إلا الله:

فليت شعري يرى الأخبار قد نشرت على الصراط وكان الهول في ظلم

إلى آخر ما قاله عبد الله بن المبارك.

الموطن الثاني: عند الميزان:

إذا لم تجدني في المكان الأول فسوف تجدني عند الميزان، ميزان الحسنات والسيئات، وقد ذكرها سُبحَانَهُ وَتَعَالى حيث قال: {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف:٤٩] وقال سبحانه تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:٤٧] حبة الخردل، والذرة من الحسنة والسيئة توزن، والرسول صلى الله عليه وسلم واقف يقول: {اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم} يراك وأنت توزن.

الموطن الثالث: عند الصراط:

الصراط هو آخر عبور إما هنا أو هناك وهو ينظر، والرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم بجوار بعض على حافتي الصراط، موسى بجانب الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك نوح وإبراهيم وعيسى ألوف مؤلفة من الأنبياء، حتى أنه في بعض الروايات أن الأنبياء يقاربون أربعمائة ألف، أي مثل بعض سكان الدول الآن، يقفون حول الصراط الذي هو أدق من الشعرة، وأحد من السيف، فيمر الناس وأول من يمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم:

بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا من العناية ركناً غير منهدم

لما دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم

فيقف وينظر إلى الناس وهم يمرون ويقول: {اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم} وتجد التصادم والخدش على الوجوه والعياذ بالله من الخذلان والحرمان.

وورد أنه صلى الله عليه وسلم يقف على الحوض كذلك وهي من العلامات المميزة، فيأتي قوم من أمته بهم من العطش ما لا يعلمه إلا الله، يأتون أفواجاً فتأتي الملائكة معها مرازب ومعها سياط من حديد فتضرب هؤلاء، فيقول صلى الله عليه وسلم لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يا رب! أمتي أمتي، أمتي أمتي، قال: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك، فيقول: سحقاً سحقا} يعني هلاكاً هلاكاً.

أما بلَّغ؟

نشهد والله أنه بلغ الرسالة وقد وصل العذراء في خدرها من دعوته ما وصل علماء الصحابة رضوان الله عليهم، وأصبحت دعوته كالشمس فبلغت دعوته كل إنسان، ولا يعذر من بلغه شيء من دعوته إلا أن ينقذ نفسه من غضب الله ولعنته وسخطه عز وجل.

<<  <  ج:
ص:  >  >>