للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[مواقف عزة المؤمن]

لما حضر رضي الله عنه وأرضاه خطب جيشه وكانوا ثلاثين ألفاً، وقال: [[إن العدو لا ينتصر علينا إلا بالمعاصي، فالله الله اتقوا الله وذروا المعاصي، فإنَّا إن عصينا الله غضب علينا ثم أهلكنا]] وخيَّم رستم وراء دجلة، ومدت الجسور، ليعبر أحد الجيشين، لتكون النهاية المحتومة، بين جيش لا إله إلا الله، وبين جيش الضلالة، بين الذين يريدون أن تنصر راية الله، وبين من يريد أن ينصر الباطل، ولكن أرسل رستم في الصباح، قائداً فارساً، أرسله إلى سعد: أن أرسل إليَّ أحد أصحابك، فأرسل سعد رضي الله عنه وأرضاه ربعي بن عامر، شابٌ كالسيف، صادق كالفجر، قويٌ كالحق، عميقٌ كالصدق، وقال: [[اذهب إليهم ولا تغير من هيئتك شيئاً]].

أي: اذهب في ثيابك وفي صدقك، وفي وضوحك، ولا تغير ولا تدين لهم بكلمة، فذهب ربعي على فرسٍ هزيلٍ ضعيف عليه أسمالٌ بالية، ومعه رمح مثلم:

من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم منارا

كنا جبالاً في الجبالِ وربما صرنا على موج البحارِ بحارا

فقدم ربعي ودخل على رستم، وإذا تيجان الذهب على رأس رستم ووزرائه، فلما رآه رستم ضحك، وقال لـ ربعي جئتم تفتحون الدنيا بهذا الفرس المعقور، وبهذا الرمح المثلم، وبهذه الثياب البالية؟! فقال ربعي ورفع صوته، وأخذ صوته يدوي كالصاعقة: [[إي والله إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]].

وفي الصباح بدأت المعركة، ونصر الله جنده، ومدت الجسور، وأخذ سعد ينادي الكتائب أن تعبر إلى أعداء الله، فلما عبرت أول كتيبة، كان من دهاء أهل فارس عبدة النار، أن قطعوا الجسور، فوقعت أول كتيبةٍ في النهر، فغرق كثير منهم، فلما رأى سعد هذا المشهد، رفع صوته، والتفت إلى السماء، وقال: [[اللهم كن سندنا ومددنا وعضدنا، حسبنا الله ونعم الوكيل]] يا خيل الله اعبري، فلما سمعت الخيول دعاء سعد بالعبور، أخذت تتوجه وتقتحم بأنفسها في النهر، وأخذ الجيوش ينزلون فجمد الله لهم نهر دجلة، فإذا هو ليس بالثلج الذي تنزلق عليه الأقدام، وليس بالماء الذي تغوص فيه الأقدام أيضاً، فأخذوا يلتفتون ويبتسمون بعضهم في بعض، وأخذ قائدهم من ورائهم يسوقهم ويقول: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:٥١] فما أن وصلوا إلى عبدة النار، المجوس، إلا وعملوا فيهم بسيوف الله، فأخذ أولئك يتساقطون وراءهم في النهر ويذعنون ويُقتَلون، ويهربون ويفرون، وارتفعت لا إله إلا الله.

ومضى سعد إلى مدينة المدائن عاصمتهم، فلما رأى قصر كسرى، قصر الضلالة والجهالة والبطالة والعمالة، قال سعد ودموعه تهراق تواضعاً لله: [[الله أكبر {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} * {وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} * {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} * {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِين}) [الدخان:٢٥ - ٢٨]]].

وعاد رضي الله عنه وأرضاه فكَّوف الكوفة، وبنى تلك المدينة، وولاه عمر أميراً عليها، فكان من خيرة الأمراء، يخاف الله في رعيته، لا يشبع حتى يشبعون، ولا يرتاح حتى يرتاحون، ولا ينام حتى ينامون، يتفقدهم، ويأوي إلى ضعيفهم، وينصف مظلومهم، ولكن أهل الكوفة قومٌ غشمة ظلمة، مشاغبون، شكوه إلى عمر رضوان الله عليه وأرضاه، وقالوا: هذا سعد ظالم، لا يحسن حتى يصلي، فتبسم عمر رضي الله عنه من هذه الكذبة التي لا تدمغها الأدمغة، ولا تهضمها واستدعى سعداً، وقال: [[يا سعد!.

يا أبا إسحاق، إن أهل الكوفة، يقولون: إنك لا تحسن أن تصلي]] وتبسم الصحابة وتبسم سعد، وإذا لم يحسن سعد الصلاة، فمن يحسن الصلاة إذاً؟

وإذا لم يعرف الفقه في الدين فمن الذي يفقه في الدين إذاً؟!!

فقال سعد: [[يا عجباً لأهل الكوفة!! يعيرونني بأنني لا أحسن الصلاة، والله لقد أدخلتهم في الإسلام بسيفي هذا]] وصدق رضي الله عنه، فقد أدخلهم بسيفه كما تدخل قطيع الضأن في الإسلام، ولكن لما علم الله أنهم ظلمة، ابتلاهم بظالمٍ مثلهم، فابتلاهم بـ الحجاج بن يوسف الثقفي: {

الجواب

=٦٠٠٠٩١٧> وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:١٢٩].

وأرسل عمر رضي الله عنه وأرضاه لجنةً من الصحابة يستقصون الحقائق، ويبحثون عن النتائج، فمروا بمساجد الكوفة مسجداً مسجداً، يسألون عن الصادق من الكاذب، يسألون عن سعد عن سيرته وعدله، وكلهم يثني عليه خيراً، وكلهم يمدحه، ويدعوا له، إلا رجلاً واحداً، ومع أنه كبير في السن، إلا أنه ظالمٌ غاشم، قام فقال للصحابة: أما إن سألتمونا عن سعد، فإنه لا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية، ولا يخرج في السرية ".

فقام سعد ومد يديه إلى السماء إلى علام الغيوب، وقال: [[اللهم إن كان هذا الشيخ كاذباً قام رياءً وسمعة، فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن]] فاستجاب الله دعوة المخلص الصادق، الذي أطاب مطعمه مع الله، والذي حصن مدخله ومخرجه مع الحي القيوم.

قال أحد الرواة: والله لقد رأيت ذاك الشيخ -وهذا في صحيح البخاري - وقد أطال الله عمره، وأطال فقره، ورأيته يتعرض للجواري في سكك الكوفة، يغمزهن وقد سقط حاجباه على عينيه ويقول: شيخٌ مفتونٌ أصابتني دعوة سعد.

فقد كان مستجاب الدعوة رضي الله عنه وأرضاه، وصلى بالناس صلاة الجمعة، ثم خرج من المسجد، وإذا بالناس مجتمعين على رجل، فقال: ما لهم، قالوا: هذا الرجل يسب علي بن أبي طالب، فالتفت إليه سعد وقال: لا تسب أخي علي بن أبي طالب، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: {أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي} فقال الرجل: والله لأسبنه، فقال سعد: والله لأدعون عليك، قال: ومن أنت حتى يجيب الله دعاءك؟! فتوضأ سعد، وصلى ركعتين، ورفع يديه، وقال: [[اللهم أرنا فيه عجائب صنعك]] وما انتهى من دعائه إلا بجملٍ شرود أقبل من الكوفة لا يلوي على شيء، كأنه يبحث عن شيء، والناس يفرون من طريقه، حتى أتى إلى هذا الرجل، فضربه برجله، فإذا هو ميت.

فقال سعد: [[الحمد لله الذي أرانا فيه آيته الظاهرة]].

<<  <  ج:
ص:  >  >>