للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم اللباس الأسود]

المسألة الثامنة: هل يجوز للمسلم أن يلبس الأسود أم لا؟

لبس الأسود فيه تشاؤم، لكن ورد أنه صلى الله عليه وسلم لبس أسوداً، وقف أبو مسلم الخراساني الذي قتل ألف ألف من المسلمين، وهو مقيم الدولة العباسية، ولذلك قيل: ثلاثة نقلوا دولاً إلى دول، الاسكندر المقدوني نقل دولة إلى دولة، وبختنصر البابلي، وأبو مسلم الخراساني نقل دولة بني أمية إلى دولة بني العباس، وهو الذي أتى بأعلامها.

قام يوم الجمعة يخطب الناس وعليه ثياب سود؛ لأن شعار لباس بني العباس الثياب السود، يسمى شعار الصولة والدولة والهيبة لبسوه، لكن الإمام أحمد لم يلبسه؛ لأن الأسود مذموم دائماً، فقام أبو مسلم الخراساني فتكلم، فقام رجل من وسط الناس وقال: يا أبا مسلم! كيف تلبس الثياب السود، وقد نهى عنها صلى الله عليه وسلم؟ قال: حدثني فلان -الرجل صاحب حديث، وهو صادق في الحديث، كذاب دائماً إلا في هذا الحديث- عن فلان، عن فلان، عن أبي الزبير، عن جابر {أن الرسول عليه الصلاة والسلام دخل الحرم وعليه عمامة سوداء} والحديث في صحيح مسلم، قال أبو مسلم: يا غلام! اضرب رأس الرجل.

فتقدم أحد غلمانه فضرب رأسه، فإذا رأسه في واد وجثمانه في واد، {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [البقرة:١٣٤].

لكن الله يبتلي الظالم بأظلم منه، فرصد له أبا جعفر المنصور حتى استخرجه كما تستخرج الحية من جحرها، وكان أبو مسلم جبار من الجبابرة، معه ألوف مؤلفة من أهل خراسان العجم يمشون في موكبه، لو قال لهم: اقتلوا من شئتم لقتلوه، وكان أبو جعفر من أدهى دهاة الدنيا، فأخذ يستدرجه ويتملح له، وكان أبو مسلم من قواده لكنه خرج عن الطاعة، ومن أعظم مصائبه أنه كتب له ائتني الزكاة التي قبضتها.

فقال: لا زكاة لك عندي.

ذهب معه في الحج؛ فسبقه وأخذ يقود الحجاج وترك الخليفة، ولو قال له: اذهب إلى الشمال لذهب إلى الجنوب عصى وتمرد فأتى أبو جعفر بحنكته فلبس -وهذا في باب اللباس- فروة ممزقة وقال: والله الذي لا إله إلا هو، لا أنزعها من على جنبي حتى أقتل أبا مسلم.

فدخل أحد وزرائه عليه، فقال: كيف تلبس هذا وأنت خليفة؟ قال:

قد يدرك الشرف الفتى وقميصه خلق وجيب قميصه مرقوع

وفي الأخير كتب إلى أبي مسلم رسالة رقيقة كأنها تسيل بالدموع وعليها الورد والياسمين، وقال: أقدم إلينا، فقد قصرنا في ضيافتك، وفي جوائزك؛ فأنت الذي فتحت الفتوح -وهو صادق- فأُرسِلَتْ الرسالة، فاستشار أبو مسلم وزراءه، فقالوا: لا تقدم فيذبحك.

فأرسل له رسالة ثانية: يا أبا مسلم! لا يغرنك حلمي، فوالله، لو وقعت في النار، لوقعت وراءك في النار، والله لو سقطت في البحر لسقطت وراءك في البحر يهدده مرة ويدغدغه أخرى.

وفي الرسالة الثالثة أرسل إليه أعمامه، وقال: تحببوا إلى الرجل وعانقوه.

وبنو العباس من أحفاد ابن عباس ترجمان القرآن وهم أهل الخلافة.

فذهب أعمامه إلى أبي مسلم، ودهدهوه، وعانقوه، ومشوا حفاة أمامه، وهو علج لا يساوي ريالين، فتكبر عليهم.

في الأخير أرسل له رسالة رابعة وقال: أقدم علي ولك الأمان.

فأعطاه الأمان، فظن أنه لا يغدر، لكنه غدر به -نسألة الله العافية- فلما أتى بالأمان مع ذلك أخذ عشرين ألفاً من الحرس، عشرة آلاف على ميمنته، وعشرة آلاف على مسيرته، ودخل بغداد، وكان أبو جعفر المنصور ذكياً فقال لأعمامه: إذا دخل بغداد فاستقبلوه في الطريق وامشوا حفاة، فاستقبلوه ومشوا حفاة، وقال لهم أبو جعفر: لا توهموه بشيء أبداً، فدخل بحرسه حتى طوَّقوا قصر الخليفة، وسلم عليه الخليفة، وحياه وعانقه عناقاً حاراً أخوياً ما سمع في التاريخ مثله، ثم أجلسه فتركه في الضيافة ثلاثة أيام.

ثم قال له: يا أبا مسلم! أما تريد أن تسبح معنا في دار الخلافة؟ -في دار السلام في بغداد - قال: نعم.

فأمر جيش الخلافة أن يوزعوا هذا الحرس في كل مكان، فأدخلوهم في الثكنات وأغلقوا عليهم، وقال: علي به في الصباح.

فأدرك أبو مسلم الموت، وقال أبو جعفر لأربعة من حراسه: أنتم وراء الستار، فإذا صفقت فاخرجوا فاقتلوه، فلما أدرك الموت قال لعم أبي جعفر عبد الله بن علي: ادخل معي هذا اليوم استنقذني من هذا فإنه سوف يقتلني، قال: أنا أتوضأ واسبقني عنده وسوف آتيك، وكان كلما دخل في باب أغلق عليه، سبعة أبواب، حتى لا يأتي أحد بعده، والحرس عنده، حتى دخل عند الخليفة وحده، وعنده خنجر في وسطه، وهو خائف ويريد أن يقتل الخليفة، وأبو جعفر ليس عنده شيء سوى سيف تحت فراشه.

فقال أبو جعفر: أرني هذه الحربة، من أين أخذتها؟ فتوهم بعد أن مازحه، فأعطاه الحربة، فسلها وجعلها تحت الفراش، ثم قال: مالك سبقتني في طريق الحج؟ قال: فعلت كذا وكذا.

قال: مالك تخطب أختي وهي من بني العباس وأنت علج فاجر؟ قال: فعلت كذا وكذا.

قال: مالك منعتني الزكاة؟ ثم قال: الله أكبر، حق عليك يا مجرم، ثم ضرب بين يديه فخرج الحرس فقتلوه، ثم وضع في كسائه ووضع عند أرجل الناس، فدخل عبد الله بن علي ذاك الواسطة القوي الشفيع، وقال: أين أبو مسلم؟ قال: هذا هو في هذا الكساء صل عليه، ثم رمي على رءوس الناس، فكأنها ما تناطحت في قتله عنزتان.

الشاهد: أن الأسود لبسه الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد جاء من حديث أبي الزبير عن جابر في صحيح مسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- دخل وعلى رأسه عمامة، ذاك القائد الرباني الرحيم الرءوف، الذي سيرة كل من سار على غير منهجه تلقى ويضرب بها عرض الحائط، فليست بسيرة، وليست بأخلاق ولا أدب.

<<  <  ج:
ص:  >  >>