للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[كمال النبي صلى الله عليه وسلم البشري]

المسألة الثالثة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم مرت به أطوار الحياة، ولا بد أن تتنبه إلى هذه القاعدة التربوية، وقد أشار إليها أبو الحسن الندوي، لكن السلف يعبرون عنها بالأبواب، وهؤلاء المتأخرون يعبرون عنها بالأطوار.

خذا جنب هرشى أو قفاها فإنه كلا جانبي هرشى لهن طريق

فقد مرت به الأطوار عليه الصلاة والسلام، فراعي الغنم له قدوة بمحمد عليه الصلاة والسلام، فقد رعى الغنم، وصح عنه أنه قال: {ما من نبي إلا رعى الغنم} والتاجر له قدوة فيه صلى الله عليه وسلم إذا اشتغل في التجارة، والجندي والإداري والقائد والمفتي والخطيب والواعظ، حتى الزواج، لعلك تفجع بشاب يرى من النسك ترك الزواج، وهذا نسك هندوكي، وليس نسكاً إسلامياً فقد وجد الرسول صلى الله عليه وسلم شباباً من شباب أمته المباركة، أحدهم لا يأكل اللحم، ومن يقدم البطاطس على اللحم فلن يجد دليلاً من الكتاب والسنة، والثاني يرى ألا يتزوج، وهذا يرى أن ترك اللذائذ دائماً قاعدة مطردة مقربة إلى الله، والثالث: يقوم الليل ولا ينام، فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بمنهج رباني اختص به؛ لأن الناس في هذه الأبواب -في أبواب المباحات- ثلاثة أصناف: فاليهود ومن سار في منهجهم، هم أهل عبادة للشهوات، لا يعرف الواحد منهم إلا فرجه وبطنه، والنصراني قاتل للإرادات، قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:٢٧] فأتى عليه الصلاة والسلام فتوسط بين الجانبين، وأعطى الروح حقها من العبادة والتبتل، وأعطى الجسم حقه من المباح، فهو وسط بين هذه الطريقة وتلك: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:١٤٣] فرفض عليه الصلاة والسلام هذا المنهج، وأخبرهم أنه يصوم ويفطر، ويقوم وينام، ويتزوج النساء ويأكل اللحم، فمن رغب عن سنته فليس منه عليه الصلاة والسلام، والرسول عليه الصلاة والسلام تزوج.

وقد ورد أن الإمام أحمد سأل شاباً، هل تزوجت؟

قال: لا.

قال: ولم؟ قال: إبراهيم بن أدهم لم يتزوج، هذا الجواب ينبئ أن الطالب ما فهم الدرس، ولا عنده وعي كامل بالكتاب والسنة، فقال الإمام أحمد: أوه -وهذه الكلمة يقال بها للزجر- ويقول العرب: أوه سقطت من يديه، أوه خررت على وجهك، فقال الإمام أحمد: أوه، وقعنا في بنيات الطريق، رجعنا إلى إبراهيم وإلى فلان وعلان، ومالك بن دينار، يقول الله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:٣٨].

فالرسول عليه الصلاة والسلام تزوج النساء، ولو لم يتزوج لما كان للمتزوجين به قدوة وإنما للعزاب فقط، لكنه عاش عزباً وعاش متزوجاً، وجاهد وعبد الله، وقام الليل ونام، وأكل اللحم وتقشف، وتقدم في المعركة، وسالم يوم رأى السلم هو الحل السليم مع الأعداء، إذاً فأطوار الحياة في حياته تكاملية، وغيره لا تجده يعيش مثلما عاش صلى الله عليه وسلم في هذه الجوانب.

فإنه يحمل الأطفال -كما مر معنا- ويحضر الجنائز، ويبكي وقت سكرات الموت إذا رأى المسلم، بكى كما في حديث زينب وغيرها كثير، ويحضر الأفراح ويتبسم، ويجيد الفكاهة في وقار، وينفق المال، ويجود بنفسه في المعركة، وهذه هي معالم تربيته صلى الله عليه وسلم، أما الأحكام فهي تحتاج إلى كلام طويل وهي جزئيات لا تنتهي، لكن التربية لها معانٍ منها أن تحصر في دروس.

من معالم شخصيته صلى الله عليه وسلم: العبادة، التواضع، الكرم، الصبر، الحلم، الشجاعة، الزهد، وأنا لا أسرد قصصاً فإن القصص ستطول، لكن آتي -إن شاء الله- بضوابط على هذه الأمور لتميز بين تربيته صلى الله عليه وسلم وتربية غيره، ولذلك تجده كاملاً في هذه الأبواب، فأصحابه الذين معه عليه الصلاة والسلام كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي لا يكتملون في بعض الجوانب، وأما هو فمكتمل، خذ مثلاً: اللين، تجد عمر رضي الله عنه وأرضاه يوصف في السيرة بالشدة، ويوصف أبو بكر بالحدة، لكن محمداً عليه الصلاة والسلام يجمع هذه الكماليات جميعاً لأن الذي ثبته هو الله -وقد أعجبتني كلمة لـ سيد قطب رحمه الله، وما أدري هل قالها في سورة التحريم أو في سورة الطلاق في الظلال، يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم مهيأ لقيادة البشرية، حتى جسم النبي صلى الله عليه وسلم مهيأ، فالناس والزعماء يقولون: إن من مواهبهم الجسمانية أن يكونوا أقوياء، وهو كان من أقوى الناس في هذا الجانب، يقولون: أوتي قوة ثلاثين صلى الله عليه وسلم، وهل هذا عند العلماء في الجماع أو في الشجاعة، أو في غيرها؟ ورد ذلك في الجماع والظاهر أنه كان قوي الجسم ومهيأ، يقول أنصاري من الأنصار: [[عرضت لنا صخرة في الخندق، فحاولناها ونحن جمع من الناس نحفر الخندق فما استطعنا لها، فرآهم صلى الله عليه وسلم فاقترب من الصخرة قال: فكأني أرى بياض ساعديه يوم كشف صلى الله عليه وسلم ساعديه -وهو يعيش على شربة اللبن، وحفنة التمر، ولم يعرف ما عرفنا من المأكولات، وعاش في صحراء بني سعد- قال: فأخذ الصخرة بيديه ثم ألقاها]].

أنت الشجاع إذا لقيت كتيبة أدبت في هول الردى أبطالها

وإذا وعدت وفيت فيما قلته لا من يكذب فعلها أقوالها

فهو صلى الله عليه وسلم يتميز بجانب القوة، وهذا استطراد جسماني، وكذلك هو متناسق الأعضاء، من يرى إلى وصفه، لا يرى أنه تربى في جزيرة العرب وفي مكة مع الشمس القاحلة والجدابة والفقر، ومع ذلك كان وجهه كالبدر ليلة أربعة عشر، من أجمل الناس على الإطلاق، وكان فيه بياض الله أعلم به، بل قال بعضهم: كأن الشمس تجري في وجهه، وقال بعضهم: كأن الثريا علقت في جبينه، وسئل بعضهم -وهو البراء هل كان وجهه صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟

قال: لا.

بل مثل القمر، وصح عن أنس قال: [[والذي نفسي بيده، لقد نظرت للقمر ليلة أربعة عشر ولوجهه صلى الله عليه وسلم، فكان وجهه أجمل من القمر ليلة أربعة عشر]] فأوتي صلى الله عليه وسلم تأهيلاً من الله عز وجل حتى في جسمه، يقول شوقي:

والحسن من كرم الوجوه وخيره ما أوتي القُوَّاد والزعماء

فإن بعض الناس قد يقال في ترجمته قصير قميء، أو طويل باهت، أو كانت له يد واحدة مثل عضد الدولة كانت عنده يد واحدة وهو سلطان الدنيا، ولذلك كلما ترجموا له أتوا بهذه القضية، وهذه لا تزيد العبد أو تنقصه في الآخرة، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام أعطاه الله عز وجل الكمال في كل شيء حتى الجسماني، ولما اعترض اليهود على ملك طالوت، وأخبر نبيهم عليه السلام أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى زاده بسطة في العلم والجسم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>