للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حدة أبي بكر رضي الله عنه]

القائدة الثامنة عشرة: حدة أبي بكر رضي الله عنه، وأنها لا تنقص من مقامه لكثرة محاسنه عند الله عز وجل فهو صادق ومخلص، ولكنه رجل فيه حدة، يقول عمر: [[كان فيه بعض الحدة]] أي: سرعة غضب، وأبو بكر لما تولى الخلافة قال على المنبر: [[يا أيها الناس! إن لي شيطاناً يعتريني -أي: يأتيني من الغضب- فالله الله، لا أمسن أبشاركم وأشعاركم]] يعني: لا تحوجوني إلى الغضب فأضرب فيكم، وفي كنز العمال أن عمر رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتولى أبو بكر دخلت معه في حظيرة فيها إبل الصدقة، فقال أبو بكر للناس: يا أيها الناس! لا يدخل معي ومع عمر أحد منكم، قال: فدخلنا فلما دخلنا إذا بأعرابي دخل، قال أبو بكر: أما قلت لكم لا تدخلوا، ثم أخذ أبو بكر خطام الناقة، وضرب به الأعرابي، فلما ضربه به عاد: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:٢٠١] فقال: أستغفر الله تعالى خذ الخطام واقتد مني واقتص -أي: اضربني كما ضربتك- قال: عمر والله لا يفعل، قال: ولم؟ قال: لا تجعلها سنة للناس بعدك كلما أدبنا الناس، قالوا: نقتص منكم، ولكن أعطه ناقة من هذه، فأعطاه ناقة ودعا لـ عمر، ولذلك قال الأعراب لـ عمر: أنت الخليفة أو أبو بكر؟ قال: أنا هو، غير أنه إياي -يعني: أنا وإياه شيء واحد.

أتى عيينة بن حصن سيد فزارة من غطفان بعد أن توفي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر هو والأقرع بن حابس فقالا: يا خليفة رسول الله! إن عندنا أرضاً سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تقطعناها لعلنا نحرثها أو نزرعها، لعل الله أن ينفع بها بعد اليوم، فقال أبو بكر عمر وليس في القوم، فانطلقا إلى عمر يشهدانه فوجداه يهنأ بعيراً له -أي: يطليه بالقطران- فقالا: إن أبا بكر أبو بكر؟ قال: أنا هو غير أنه إياي.

ولذلك هذا شاهد في النحو، يعني: تقديم ضمير الغيبة والضمير المتصل على المنفصل، استشهد به ابن مالك.

وفي صحيح البخاري، من باب: حدة أبي بكر التي ظهرت منه، قال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: كان الناس يستضيفون ضيوف رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قوم المدينة فأخذ كل منا ضيفاً معه -الضيف: أي الجماعة- فأخذ أبو بكر جماعة معه فذهب بهم إلى بيته، فقال لضيوفه: معكم ابني عبد الرحمن، يعشيكم هذه الليلة وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فترك الضيوف مع ابنه عبد الرحمن -وابنه من خيرة الناس- وقال: عشهم، وذهب أبو بكر رضي الله عنه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يتعشى؛ لأنه كان يسمر معه، فلما قدم لهم عبد الرحمن العشاء قالوا: والله لا نتعشى حتى يأتي أبو بكر، فقال لهم عبد الرحمن: سوف يتأخر عليكم وقد أمرني أن أقدم لكم هذا العشاء، قالوا: لا.

فانتظروا فمضى ليلٌ وأتى ليلٌ وبرد العشاء، فأتى أبو بكر آخر الليل وكان يوتر، ثم دخل البيت، فقال لـ عبد الرحمن: أعشيتهم؟ قال عبد الرحمن: فقمت فاختبأت لأني أعلم أن أبي سوف يغضب، قال: فجدع وسب -وهذه رواية البخاري - ثم قال لضيوفه: كلوا، فلما أكلوا كانت هذه من كرامات الأولياء له قال ابن تيمية في الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان: "إن من كرامة أبي بكر أنه ضوعف وبورك له الطعام كما بورك للرسول عليه الصلاة والسلام فأكلوا وقد جاعوا لأن الليل طال عليهم، ليس من مصلحتك أن تؤخر العشاء إذا أتاك ضيف، بل من المصلحة أن تبادر بالعشاء حتى لا يبقى له وقت لأن يجوع، ثم تقدمه له حاراً، فقدم لهم رضي الله عنه، فأكلوا ثم رفعوا الصحفة فإذا هي مثل ما كانت، ما نقص منها شيء، فقام بالصحفة إلى زوجته، قال: -كما في البخاري - يا أخت بني فراس! والذي نفسي بيده إن الصحفة مثلما وضعناها، فأكل هو وزوجته، ثم حمل الصحفة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فأخبره، فدعا لهم بالبركة، وقد بارك الله طعامهم.

وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع

أبو بكر إن كان فيه حدة ففيه الصدق والأمانة، والكرم والإخلاص، ولا تجد منقبة في الإسلام إلا وهي في أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>