للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (والعصر)]

{وَالْعَصْرِ} [العصر:١] الواو للقسم، ولله أن يقسم بما شاء من خلقه, وليس للمخلوق أن يقسم إلا بالخالق, فالله أقسم بالليل وما أدراك ما الليل إذا سجى، وأقسم بالضحى, والفجر, والقارعة والطامة والصاخة, وأقسم بالشمس والقمر, وأقسم بالنفس, وأقسم بكثير من الآيات الكونية, وأجاب عن القسم.

والله عز وجل أقسم ليقرر كثيراً من المسائل في عقول الذين لم يصدقوه إلا بالقسم.

يقول الأصمعي -وقد ذكرها ابن قتيبة وابن عبد ربه في العقد الفريد -: "سافرت وأنا في طريق الحج, فسمعت قارئاً يقرأ قول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات:٢٢ - ٢٣] قال: فبكى الأعرابي فقال: من الذي أحوج الجليل حتى يقسم؟ " يقول: من الذي في هذه البشرية وهذه البرية أحوج الله حتى يحلف، ألا يرضون إلا بقسم؟! ولا يصدقون إلا بيمين؟! من الذي أحوجه حتى حلف سُبحَانَهُ وَتَعَالى؟

إنهم البشر.

إنها العقول التي ما استفاقت على الوحي, وما عرفت طريقها إلى الله، إنها العقول التي عبدت الحجر والوثن.

إن جدي وجدك قبل الوحي كانوا يجمعون التمر ويسجدون له، فإذا جاعوا أكلوه, جدي وجدك قبل الرسالة كان يبول الثعلب على أصنامهم ويسجدون للصنم.

أتى واحد منهم إلى صنم في جهينة ليسجد له, فخرج ثعلب من وراء الصنم فهربت ناقته وسقط من على الناقة, قال:

أتينا إلى سعد ليجمع شملنا ففرقنا سعد فما نحن من سعد

وأتى آخر من أجدادنا الوثنيين قبل الإسلام, فوجد ثعلباً يبول على حجر وهو يعبد هذا الحجر, قال:

أرب يبول الثعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه الثعالب

فلما أتى عليه الصلاة والسلام أخرجني وأخرجك، وأخرج أبي وأباك، وأخرج جدي وجدك, كانت أنوفنا في التراب حتى أتى من الغار بـ (اقرأ).

اقرأ فأنت أبو التعليم رائده من بحر علمك كل الناس يغترف

إن لم تصغ منك أقلام معارفها فالظلم ديدنها والزور والتلف

سعد وسلمان والقعقاع قد عبروا إياك نعبد من سلسالها رشفوا

ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الأمي الذي لم يحمل قلماً ولا طبشورة ولا وقف عند سبورة, ولا عرف جامعة ولا كلية: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:٥٢].

كانت الأمة ميتة فنفخ الله فيها هذا القرآن فأصبحت مبصرة, فمن يتصور أننا قبل الإسلام في جزيرة العرب نصيد الضباب ونرعى الإبل والبقر والغنم، وبعد خمس وعشرين سنة نتكلم على منبر قرطبة , ونؤذن في منائر إشبيلية , ونسجد لله في الحمراء , ونصلي في سيبيريا ونفتتح الهند والسند , من يصدق؟!

وهذا إنما كان بالوحي.

<<  <  ج:
ص:  >  >>