للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حقيقة النعمة]

ولك أن تسألني سؤالاً: الآن نرى كثيراً من الناس ضلالاً عن منهج الله، وهم يعيشون في نعيم ورغد عيش وقصور ومناصب وبساتين وحدائق وأموال وأولاد, فأين الشقاوة والضلال؟

أقول لك: أما حج عليه الصلاة والسلام وخطب يوم عرفة على ناقته؟ أما كان فقيراً في غالب أيامه؟ ومع ذلك أنزل الله عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عليه في يوم عرفة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:٣] يقول بعض الفضلاء: "يا سبحان الله! يقول الله للرسول صلى الله عليه وسلم: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:٣] مع العلم أنه كان يربط الحجرين على بطنه فأي نعمة هذه؟!

ويقول: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:٣] مع العلم أنه كان يسكن بيتاً من طين طوله ثلاثة أمتار في مترين.

{وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:٣] وكان ينام على خصيف من نخل.

{وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:٣] وما شبع من خبز الشعير ثلاث ليال متتابعة.

{وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:٣] ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير, فأين النعمة؟!

فالنعمة ليست هي التي يتصورها الناس: نعمة البقر والحمير والثيران, أو نعمة الأكل والشرب, فهذا يحصل عليه الوثني الأفريقي والأحمر النصراني والأشقر البلشفي, لكن النعمة غير ذلك, فالنعمة هي أن تعرف الله.

أين ما يدعى ظلاماً يا رفيق الليل أينا إن نور الله في قلبي وهذا ما أراه

قد مشينا في ضياء الوحي حباً واهتدينا ورسول الله قاد الركب تحدونا خطاه

ويقول تعالى: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:٢٥٧] {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:٢].

أسأل سؤالاً: ما هو أثر هذه النعمة على مجتمعنا؟ أما سكنا القصور؟! أما عندنا سيارات فاخرة؟ أما عندنا حدائق وبساتين ومناصب فماذا قدمنا بالنسبة لمن كان قبلنا؟

شيخ الإسلام ابن تيمية لا زوجة له ولا ولد ولا قصر ولا منصب ولا سيارة, بل كان عنده غرفة بجانب جامع بني أمية, وقد ألف أكثر من سبعمائة مجلد, ورد على أكثر من عشر طوائف, ونازل الإلحاد فدمغه في الأرض, فأقام منهجاً ربانياً على كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, فأين أثر هذه النعمة في حياته؟

هل وجد الكهرباء ليكتب عليها؟ هل كان يجد من وسائل العصر التي تخدمه في الكتابة؟

بل كان يشعل السراج ويكتب عليه حتى ينطفئ.

والإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة والجماعة , الذي نجتمع الآن على سماع حديثه في المسند , كان يحفظ ألف ألف حديث بالمقطوعات والموقوفات والآثار وكلام الصحابة, يقول عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء: "نزل سوق بغداد وعلى كتفه حزمة من الحطب, فأتى الفتح بن خوقان وهو وزير عباسي, فأسرع الإمام أحمد فقال الفتح: أنا -يا أبا عبد الله - أحمل عنك حزمة الحطب, قال الإمام أحمد: لا.

نحن قوم مساكين لولا ستر الله افتضحنا".

يقول ابنه عبد الله: بقيت حذاء أبي معه سبع عشرة سنة وكان يرقعها دائماً, ومع ذلك مات وعنده ثوب وحذاء واحد، ولكن في أصقاع الدنيا أحمد بن حنبل، وفي سمع الدنيا أحمد بن حنبل، وفي ذاكرة الدنيا أحمد بن حنبل، {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:٢٤].

إذاً: فما هي النعمة؟!

النعمة هي طاعة المولى, قال ابن تيمية: الكرامة لزوم الاستقامة، والنعمة هي أن تعرف منهجك في الحياة، فتصلي الصلوات الخمس جماعة, والنعمة ألا تكون غاوياً ولا شقياً ولا منحرفاًَ.

أما قضية هذه الدنيا فإن الله أعطى البر منها والفاجر, وأعطاها من يحب ومن لا يحب, قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن أعدائه: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:٣٣ - ٣٥].

يقول ابن بطوطة صاحب الرحلة: " ذهبت وراء خراسان فوقفت في تربة هناك فأخبرني أهل خراسان أنه دفن في تلك التربة ألف ملك من ملوك الدنيا" فهؤلاء ألف ملك، كنا نظن نحن أننا من ابتدأ التاريخ وكأن الصفر من عندنا, قال: "فوجد حجراً مكتوباً عليه هناك:

وسلاطينهم سَلِ الطينَ عنهم والرءوس العظام صارت عظاما

يقول: سل وتكلم مع الطين, يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم:٤٥ - ٤٧] يقول: لا تظنوا أنكم أول من سكن الديار بل سكنها قبلكم أمم.

وسلاطينهم سَلِ الطينَ عنهم والرءوس العظام صارت عظاما

وهؤلاء الذين كان الواحد منهم لا يتكلم مع البشر, ولا يسلم عليهم, ولا ينظر إليهم، أصبح رأسه عظاماً.

وهذا علي بن أبي طالب أمير المؤمنين أبو الحسن الزاهد الولي قدموا له كوباً من خزف ليشرب فيه, فنظر رضي الله عنه وأرضاه إليه فبكى, فقالوا: ما لك تبكي يا أبا الحسن؟ قال: [[آلله! كم كان في هذا الإناء من طرف كحيل ومن خد أسيل]] يمكن أن يكون هذا الخزف من تراب ورفات الناس الذين ماتوا، مزجت به وأصبحنا نشرب منه, كما يقول أبو العلاء:

خفف الوطء ما أظن أديم الـ أرض إلا من هذه الأجساد

رب لحد قد صار لحداً مراراً ضاحك من تزاحم الأضداد

صاحِ! هذي قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد

فلذلك يظن بعض الذين يعملون المنكر الآن, ويجاهرون الله بالمعاصي, ويحاربونه بالانحراف أنهم أول من أتى في فجر هذا التاريخ.

والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لا يعجزه أحد, فإن الله عز وجل ذكر كل أمة ثم قال: {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت:٤٠] فمن الذي اعترض على قضاء الله؟ ومن الذي استطاع أن يقف أمام الله؟!

هذا نمرود بن كنعان قتله الله ببعوضة, وأذلته أمام الله, وهذا النمرود ربّى نسرين وأطعمها اللحم وقال: أقتل عليها إله إبراهيم, وصعد على النسرين فكان يضرب بالأسهم في السماء ليقتل الله, فأرسل الله عليه بعوضة دخلت في أنفه, فأخذت تأكل من دماغه، فإذا هشهشت بأجنحتها كالعصفور؛ ارتج دماغه فلا يهدأ حتى يضرب الخدم رأسه, فضرب أحد الخدم رأسه فأخرج نخاعه من أنفه فمات, فانظر إلى هذا المصير.

وفرعون أين مات؟

لقد مات في ماء كان يتحدى به, فكان يقف يوم العيد -يوم النيروز- بين قومه الجهلة الفسقه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الزخرف:٥٤] ويقول للخونة الأذيال الأذناب كما حكى الله عنه: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:٥١]؟ فيصفقون له ويعظمونه ويقدسونه.

وعند قوله تعالى حاكياً قول فرعون: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:٥١] قال أحد العلماء: فأجراها الله من فوق رأسه في سكرات الموت: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف:٢٧] لكن من يرجع إلى الله؟ إنه الذي يعرف آياته ويعيش عبره ويستفيد من عظاته.

<<  <  ج:
ص:  >  >>