للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بيان تحريم عقوق الأمهات ومعناه]

المسألة الثالثة: قال عليه الصلاة والسلام: {إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات} الحديث، ويدخل فيه عقوق الآباء، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إن الجنة تحت أقدام الأمهات} وقد علقه البخاري في الصحيح، ومعنى ذلك أن الجنة قريبة إذا بر العبد أمه، فهي في متناول يده وفي قربه بسبب هذا البر.

وقال أهل العلم: للأم ثلاثة أرباع الحق، وللوالد الربع وقد أخذوه من قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين، لما جاءه رجل وقال: {يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك} فجعل للأم ثلاثة أرباع الحق، وللأب الربع؛ لأن الأم قامت بأمور لا يعلمها إلا الله، من البر، والصلة، والعناء، والمشقة، والأسى، واللوعة.

وورد في ترجمة ابن عمر رضي الله عنهما بسند جيد، أنه كان يطوف بالبيت في شدة حرارة الشمس، ورجلٌ من أهل اليمن يطوف بأمه، وقد تصبب العرق من وجه اليماني، وهو متعب ومرهق، فقال: [[يا بن عمر! أرأيتني جزيت أمي بما فعلتُ لها؟ -يطوف بها في حرارة الشمس وهي على ظهره- قال ابن عمر: لا والله! ولا بزفرة من زفراتها]].

وأورد الزمخشري في الكشاف، ونسبه إلى الطبراني وفي سند الحديث كلام: {أن رجلاً وفد إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال صلى الله عليه وسلم: مالك؟ قال: يا رسول الله! ابني ربيته، فلما كبر عقني وظلمني واضطهدني! قال: هل قلت فيه شعراً؟ قال: نعم يا رسول الله! قال: ماذا قلت؟ -لأن العرب كانت تنفث همومها في الأشعار، إذا اهتم الواحد منهم أو عقه ابنه، أو طال عليه الليل، أو ضاعت ناقته، أو سقطت منه حذاؤه، نظم قصيدة، فهي أمة فصيحة رائعة، تتعامل مع الشعر، فلما أتاها الوحي كفاها الوحي- قال: هل قلت في ذلك شعراً؟ قال: نعم.

قال: ماذا قلت؟ قال:

غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً تعل بما أجري عليك وتنهل

إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا شاكياً أتململ

يقول: يا بني! ربيتك، وحرصت عليك، وأنشأتك، حتى إذا مرضت أنت كأني أنا المريض، فلا أنام الليل إذا ما نمت أنت.

فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما فيك كنت أؤمل

جعلت جزائي غلظة وفظاظةً كأنك أنت المنعم المتفضل

فدمعت عيناه عليه الصلاة والسلام، وجاء بالابن وهزه بتلابيب ثوبه، وقال: أنت ومالك لأبيك} وأصل كلمة: {أنت ومالك لأبيك} صحيحة، لكن القصة فيها كلام من باب أحاديث السير.

فعقوق الأمهات يدخل فيها تبعاً عقوق الآباء.

وما معنى عقوق الوالدين؟

قال بعض العلماء: قطع الأم والوالد من الزيارة، وقال بعضهم: ألا تنفق عليهما وهم يستحقون النفقة، وقال بعضهم: أن تعقهم حتى يبكون من العقوق، فإذا بكوا فقد بلغت درجة العقوق.

والصحيح أن عقوق الوالدين يكون بتكدير خاطرهما، وعصيانهما في غير معصية الله عز وجل، وعدم الوفاء بحقوقهما، فهذا هو العقوق، وإذا لم يرض عنك أبوك وأمك فأنت عاق، وإذا رضيت الأم والوالد فقد وجد البر وانتفى العقوق.

وهذا أمر نسبي عند بعض الناس، فقد يقول بعضهم: أمي في مدينة وأنا في مدينة، فهل هذا من العقوق؟

والجواب أن يقال: لا.

ليس هذا من العقوق؛ لأنها في مدينة وأنت في مدينة، فإن كانت راضية عنك وهي في تلك المدينة فقد بررتها، وإن كانت ساخطة عليك ولو كانت في البيت التي تسكن فيه فقد عققتها، هذا هو الصحيح.

<<  <  ج:
ص:  >  >>