للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[يونس بن متى في ظلمات ثلاث]

قال أهل العلم: دخل يونس السفينة فتموجت بها الريح وعصفت؛ لأن المعصية أليمة، وخيمة العواقب، وقد أرسله الله إلى قومه، فلم يستأذن في الخروج، فقال ربان السفينة: معنا عاص فلنقترع، فاستهموا فوقعت القرعة عليه، ومن وقعت القرعة عليه يضعوه في اليم، فوقعت عليه! فاستهموا ثانية فوقعت عليه! وفي الثالثة وقعت عليه! فأخذوه وألقوه في اليم في الليل، فابتلعه الحوت فأصبح في ظلمات ثلاث: ظلمة الليل، وظلمة اليم، وظلمة الحوت.

فلما أصبح في بطن الحوت انقطعت صلته بالمخلوقين جميعاً، لا ولد، ولا زوجة، ولا أهل، ولا قوم، ولا مال، ولا رئاسة، ولا منصب، وقال وهو في الظلمات في آخر الليل: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:٨٧] وانطلقت لا إله إلا الله إلى رب لا إله إلا الله مباشرة: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:١٠].

قال بعض أهل التفسير: سمعت الملائكة قول يونس بن متى وهو في ظلمات ثلاث: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:٨٧] فبكوا وقالوا: يا رب! عرفنا الصوت، ولكن لا ندري أين يونس.

الملائكة لم تعرف في أي قارة، هل هو في أفريقيا، أم في آسيا، أم في البحر أم في النيل أم في دجلة؟ لكن الواحد الأحد يدري أين هو، يدري بالزمان والمكان: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه:٥٢] {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:٥٩].

يقول لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:١٦] يا بنى! لو كانت حبة كالخردل، وكانت في صخرة مقفلة صماء يأتي بها الواحد الأحد.

قالت الملائكة: يا رب! صوت معروف من عبد معروف لا ندري أين مكانه؛ لأن صوته معروف كان يسبح دائماً، كان في نهاره وفي ليله يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر؛ فعرف صوته في الملأ، ولذلك بعض الناس يعرف صوته بالتسبيح، وبعض الناس يعرف صوته بالفجور والغناء.

لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد بن عمروٍ والأغر بن حاتم

فريق في الجنة وفريق في السعير

وناد إذا سجدت له اعترافاً بما ناداه ذو النون بن متى

وأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرتا

بكت الملائكة وقالت: يا رب! صوت معروف من عبد معروف لا ندري أين مكانه.

قال: أنا أدري، فنجاه الله بكلمة "كن" وقذفه الحوت في الصحراء، وكان عرياناً ليس عليه من الملابس شيء، فأنبت الله عليه في الحال شجرة من يقطين، فأكل من ثمرها، وتظلل بظلها واكتسى، وأرسله الله إلى قومه: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:١٤٣ - ١٤٤] لأنه حفظ الله في الرخاء فحفظه في الشدة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك}.

<<  <  ج:
ص:  >  >>