للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الاستعداد ليوم المعاد]

فيا إخوتي في الله شيوخاً وشباباً، كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً! اعلموا أنكم عما قريب قادمون علىالله، لقد تزوج آباؤنا وأجدادنا، ثم ذهبوا ووسدوا التراب، وفارقوا الأصحاب، وتركوا الأحباب، وجردوا عن الثياب، كأنهم ما أكلوا مع من أكل، ولا شربوا مع من شرب، ولا تزوجوا مع من تزوج، ولا كأنهم تمتعوا.

والله لقد ذهبوا مرتهنون بأعمالهم: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:٩٤]

لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت بانيها

فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها

أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها

فاعمل لدارٍ غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها

قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها

عاش نوح عليه السلام ألف سنة، فلما أتته سكرات الموت، قال الله له: كيف وجدت الحياة؟ -والله أدرى وأعلم- قال: وجدت الحياة كبيت له بابان، دخلت من هذا الباب وخرجت من هذا الباب.

آدم عبد الله ألف سنة في الجنة ثم أكل من الشجرة بعد أن نهاه الله عنها فعصى ربه، فأنزله الله من الجنة فبكى، أول ما نزل من الجنة على جبل في الهند فبكى ثلاثمائة سنة، ثم قال الله له: يا آدم! ما لك؟ قال: يارب! عبدتك ما يقارب ألف سنة، فلما عصيتك بأكل شجرة أنزلتني وأهبطتني من الجنة.

قال الله: يا آدم! وعزتي وجلالي لو عصاني أهل السماء والأرض لأنزلتهم في ديوان العاصين ولحرمتهم حتى يعودوا من التائبين.

قال: يارب! هل لي من توبة؟ قال: يا آدم! تب أتوب عليك، فقال: أستغفر الله، فتاب الله عليه، فلما قال الله: يا آدم! وعز تي وجلالي لو أن أهل السماء والأرض عصوني لكتبتهم في ديوان العاصين، أنزل جبريل -كما قال ابن الجوزي - التاج من على رأسه وبكى، وكذلك ميكائيل وإسرافيل، قالوا: وعزتك وجلالك ما عبدناك حق عبادتك.

إذا علم هذا فلنخف من معصية الله، يقول الله: مهلاً مهلاً وعزتي وجلالي لولا شيوخ ركع، وأطفال رضع، لخسفت بكم الأرض خسفاً.

وذنوبنا ومعاصينا وخطايانا وسيئاتنا لا تعد ولا تحصى، انظر ماذا فعلنا؟

كثير من الناس يشهد عند القضاة شهادة زور، وبعضهم يشتري الشاهد بآلاف الدراهم والدنانير، فيبيع دينه وذمته، ويبيع نصيبه وحظه من الله، ويقطع الحبل الذي بينه وبين الله، فلا ينظر له الله يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم، فيذهب إلى القاضي فيشهد شهادة الزور فيغضب الله وملائكته وعباده.

لو دفع للإنسان الدنيا وما فيها على أن يشهد شهادة الزور فإنه والله هو الخاسر وهو المطرود، أيضاً يوجد من الناس من يصنع لجاره المشاكل والمصائب والعناد ما لا يعلمه إلا الله.

أين الغيرة؟ أين الإسلام؟

يقول صلى الله عليه وسلم: {ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه} أي: سيجعل له حظاً من الميراث.

كان جار الرسول عليه الصلاة والسلام يهودياً، فكان صلى الله عليه وسلم إذا اشترى اللحم يعطيه منه.

وكان صلى الله عليه وسلم يزور اليهودي إذا مرض، وفي الأخير قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، هذا هو الإسلام، الجار أمره عظيم، يأتي جار يبكي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرتفع بكاءه فيقول صلى الله عليه وسلم: مالك تبكي؟ قال: يا رسول الله! أشكو إليك جاري، سبني وشتمني، إذا غبت ما حفظني، وإن حضرت هضم حقي، قال: ماذا أفعل يا رسول الله؟ قال: اصبر واحتسب، فصبر واحتسب، ثم عاد يبكي ثانية، فقال صلى الله عليه وسلم: اصبر واحتسب، فصبر واحتسب، ثم عاد يبكي، فقال صلى الله عليه وسلم: خذ متاعك وأهلك وأطفالك وانزل واجلس في طريق الناس، فأخذ متاعه وزوجته وأطفاله ونزل في طريق الناس، قالوا: مالك يا فلان؟ قال: أخرجني جاري من داري، قالوا: لعنه الله! وهكذا كلما مر شخص يسأله عنه حاله، فيعلم بما حصل له، فيسب ذاك الجار المؤذي، فسمع ذلك جاره، فقال: والله لا أعود، عد إلى بيتك، بعد أن أخذ لعنة العالمين؛ فنعوذ بالله من الخذلان!

بعض الناس الباب إلى الباب ولا يسلم بعضهم على بعض سنوات طويلة، بل الأرحام يتقاطعون، ويتشاكون، بل يتلاعنون، بل بعضهم يكادون يتقاتلون، أين الإيمان؟! أين الإسلام؟!

يوجد في القرى مساجد لا يصلي فيها إلا ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة فأين الإيمان؟!

يسمعون الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أربع شهادات، ثم لا يجيبون: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأعراف:٤٠ - ٤١].

أين إيمان المؤمن؟ إذا سمع الأذان ترتاح نفسه.

هذا أحد السلف مرض مرضاً طويلاً كأنه قطعة لحم على الفراش، وكان إذا سمع: الله أكبر، قال: احملوني إلى المسجد، قالوا: عذرك الله! أنت مريض، قال وهو يكاد يتقطع: كيف أسمع: الله أكبر ولا أقوم! أسمع: حي على الصلاة حي على الفلاح ولا أقوم إلى المسجد! ولو كان في القلوب إيمان والله ما يأتيك النوم بعد أن تستمع الأذان، بل يضطرب قلبك، ويصبح مثل القدر يغلي، لأن الإيمان يجعل القلب كالقدر يغلي غلياناً.

وجلجلة الأذان بكل حي ولكن أين صوت من بلال

منائركم علت في كل ساح ومسجدكم من العباد خال

يقول أحد السلف: [[يا رب! إذا أمتني أمتني ميتة حسنة.

فقال له أبناؤه: ما هي الميتة الحسنة؟ قال: أن يتوفاني ربي وأنا ساجد]] فأعطاه الله ما تمنى؛ لأن الله يعطيك على قدر نيتك: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:٦٩] {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:٢١].

أتته سكرات الموت، فقال: احملوني إلى المسجد، قالوا: أنت معذور، أنت في سكرات الموت، قال: سبحان الله! أسمع: حي على الصلاة، حي على الفلاح ولا أجيب!! فحمله أبناؤه على أكتافهم حتى وضعوه في الصف، فصلى صلاة المغرب فلما كان في السجدة الأخيرة قبض الله روحه، لأنه صادق مع الله، طلب الموت وهو ساجد، فأعطاه الله.

يقول أحد الصالحين وأبناؤه يبكون عنده: لا تبكوا عليَّ، قالوا: ولم؟ قال: والله ما فاتتني تكبيرة الإحرام مع الإمام ستين سنة: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:١٠٩] أحد الناس لا يعرف إلا المسجد، أول ما يفتتح برنامجه اليومي صلاة الفجر، حتى يقول عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم: {من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله -أي: في حفظ الله - فالله الله لا يطلبنكم الله بشيء من ذمته}.

وأوصيكم بترك أكل المال الحرام، كالربا، فقد انتشرت البنوك الربوية، وكيف يدعو الله وهو يأكل الربا، فيقول الله: لا لبيك ولا سعديك مطعمك حرام، ومشربك حرام، وملبسك حرام، فأنى يستجاب لك!

لا يستجيب الله للذي يأكل الحرام، حتى الحاج يحج ويتعب ويصهر في الشمس ويجوع وتفصم ركبه من السير، فيقول: لبيك اللهم لبيك، فينادي الله من السماء: لا لبيك ولا سعديك، مطعمك حرام، ومشربك حرام، وملبسك حرام، فأنى يستجاب لك!

فحذارِ حذارِ من الدخل الحرام، فإنه يفسد العبادة ويعطل الدعاء ويغضب المولى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

ثم أوصيكم ونفسي بالتزود من النوافل، وكثرة الذكر فأنتم قادمون على سفر، وأنتم الآن مقبلون على هذا السفر البعيد، بعضنا بقيت له أيام وبعضنا أسابيع وبعضنا أشهر وبعضنا سنوات وسوف نجتمع غداً، فاعملوا لجنة عرضها السماوات والأرض، واعلموا أننا والله مهما ارتحنا وضحكنا واسترحنا وبنينا وعمرنا وركبنا فإنها ستسلب منا سريعاً، وأنه لا يبقى إلا وجه الله.

هارون الرشيد ملك الدنيا من الشرق إلى الغرب، من الشمال إلى الجنوب، بنى قصراً من أعظم القصور في بغداد عاصمة العراق وكان اسمها دار السلام قديماً، فلما بنى هذا القصر، قال للشعراء: ادخلوا وامدحوا القصر وصاحبه، فدخلوا ومدحوا الخليفة نفسه، ثم أتى شاعر الزهد والحكمة أبو العتاهية، فقال لـ هارون الرشيد:

عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور

قال: هيه، قال:

يسعى عليك بما اشتهيت مع الرواح أو البكور

قال: هيه، قال:

فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور

فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور

فبكى حتى سقط من على كرسيه.

إن سكرة الموت تنسيك كل لذة في الحياة.

والله إنه قد وجد من بعض الملوك وقد قرأت سيرهم، مثل: المعتضد كان عنده أربعمائة جارية، وأربع نسوة، وكان عنده من القصور في كل مكان، وكان يقول: ما تركت لذيذاً حتى أكلته، وما تركت جميلاً حتى لبسته، ولا نعمة حتى تمولتها، فلما أتته سكرات الموت كان على عرش الملك، قال: أنزلوني، فأنزلوه، فكشف البساط، ومرغ وجهه في التراب، وقال: ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانية، ياليتني ما عرفت الحياة! يا ليتني ما عرفت الملك!

إلى الله نشكو قسوة في قلوبنا وفي كل يوم واعظ الموت يندب

ولله كميت حبيب ورائح يشيعه للقبر والدمع يسكب

فيا أيها المسلمون: يا من عرف مصيره! ويا من عرف طريقه إلى الله! تزود من العبادة، وأكثر من النوافل، أكثر من التسبيح، وسع قبرك بالعمل الصالح، القبر والله لا يوسعه الدور، ولا القصور، ولا المال، ولا المنصب، ولا الوظيفة، لا يوسعه إلا العمل الصالح:

والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران

إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده

وإن يكن شراً فما بعد أشدّْ ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صدّْ

اللهم تولنا فيمن توليت، اللهم تب علينا، اللهم إنا نسألك من العيش أرغده، ومن العمر أسعده، ومن الوقت أتمه، ومن الزمن أعمه.

اللهم ثبتنا على لا إله إلا الله، وأمتنا على لا إله إلا الله، وأدخلنا قبورنا على لا إله إلا الله، ونجنا من النار بلا إله إلا الله، وأدخلنا الجنة بلا إله إلا الله.

اللهم إنا نسألك الأمن والأمان، والالتزام والسلام، والراحة في الأبدان والأوطان والأديان يا رب العالمين.

ربنا زدنا تقىً وعفافاً وغنى، وثبتناً وأرشدنا واصرفنا مغفوراً لنا يا رب العالمين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>