للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[رحلته إلى الشام المرة الثانية]

ولما بلغ سنه صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين سنة سافر إلى الشام للمرة الثانية, وذلك أن خديجة بنت خويلد الأسدية كانت تاجرة, وكان عندها مال، وتوفي عنها زوجها, وكان عمرها أربعين سنة, فالتمست شاباً في مكة يستطيع أن يقوم بالتجارة، وأن يبيع ويشتري لها ويكون أميناً، فما وجدت إلا الرسول عليه الصلاة والسلام, وكانوا يسمونه الصادق الأمين, وكانت ودائعهم عند الرسول عليه الصلاة والسلام, ولذلك يقول الوليد بن المغيرة لما اجتمعوا في ليلة سمر، لما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بلا إله إلا الله محمد رسول الله, قال كفار قريش: تعالوا نبحث لنا عن عيب وعن عار نلحقه بهذا الرسول، حتى يتسامع العرب أن فيه كذا وكذا، فلا يقبلون دعوته, فاجتمعوا وقالوا: ساحر, قال الوليد: لا يصلح هذا, قالوا: نرى أنه مجنون, قال: لا يصلح, قالوا: خائن, قال: كيف كنا نستأمنه وهو في الخامسة والعشرين من عمره، فلما ظهر الشيب في صدغيه -أي: أصبح في الأربعين- نقول: خائن؟ والله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يرد عليهم: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:٢٢] بل كان أصدق الناس وأعظمهم أمانة، وكانت الودائع عنده صلى الله عليه وسلم.

فاستأجرته خديجة، فذهب صلى الله عليه وسلم في التجارة، فكانت من أحسن السفرات, التي سافروا فيها للتجارة في تلك الفترة, لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم, وهذه بركته صلى الله عليه وسلم, وربحوا ربحاً عظيماً، ثم لما أتى عرضت خديجة نفسها على هذا السيد الكريم صلى الله عليه وسلم، فتزوجها، وكان الذي خطب الخطبة أبو طالب سيد قريش -وحضر أبو طالب فقال: الحمد الله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل وضئضيء معد، وعنصر مضر، وجعلنا حفظة بيته, وسواس حرمه، وجعله لنا بيتاً محجوجاً، وحرماً آمناً، وجعلنا حكاماً على الناس -فقريش سادة في الجاهلية، وسادة في الإسلام- ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يعدل به رجل شرفاً ونبلاً وفضلاً -يقول: ائتوني برجل يعادله من شباب مكة فلا تجدون- وإن كان في المال قل، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، وعارية مستردة، يقول: إذا كان قليل المال فالمعذرة، فإن المال لا يثبت بل ينتهي والمال عارية والمال يذهب, ولا تبقى إلا الرسالة.

والرسول صلى الله عليه وسلم بقي فقيراً حتى مات, أتباعه فتحوا ثلاثة أرباع الدنيا، وبقي صلى الله عليه وسلم فقيراً حتى مات, تصور مثلاً: عبد الملك بن مروان بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم بسنوات تولى الخلافة، وكان يحكم اثنتين وعشرين دولة عربية وغير عربية, أي: أن الجامعة العربية الآن ودولها كانت جزءاً من حكومة عبد الملك بن مروان الذي هو من التابعين للرسول صلى الله عليه وسلم, ومع ذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أتاه مرض الموت كان له حصير من خصف, ووردت رواية: أن ملكاً آتاه، قيل: جبريل وقيل: غيره، معه مفاتيح جبال الدنيا ذهباً, فقال: يا محمد! خذ هذه مفاتيح جبال الدنيا ذهباً, قال: {بل الرفيق الأعلى, بل الرفيق الأعلى, بل الرفيق الأعلى من الجنة} فقالت: عائشة خيرت واخترت يا رسول الله- ثم أخبر بالمهر وقال كذا, وعلى ذلك تم الأمر وكانت خديجة متزوجة قبله بـ أبي هالة، توفي عنها ولها منه ولد اسمه هند بن أبي هالة وهو ربيب المصطفى صلى الله عليه وسلم, ولما تزوج خديجة كانت عاقلة، وكانت من أفصح النساء, وهي التي شدت من قلبه صلى الله عليه وسلم, وواسته في الأزمات, وكان يشكو إليها جراحه وآلامه ولوعته وحرقته, وما وجده من نكال وعذاب, حتى يوم أتى من غار حراء يرتجف صلى الله عليه وسلم, فقال: {خشيت على نفسي قالت: كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق} ونزل جبريل مرة, فقالت: من هذا؟ قال: {هذا جبريل يقرئك السلام، ويبشرك ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب} والبيت في الجنة من قصب، من لؤلؤ مجوف لا صخب فيه ولا نصب, وكان صلى الله عليه وسلم إذا التجأ إلى شيء قطع الله هذا الشيء، ليلتجئ إلى الله, مات أبوه وهو في بطن أمه ماتت وهو طفل, فالتجأ إلى جده فمات جده, فالتجأ إلى عمه فمات عمه, فالتجأ إلى خديجة فماتت خديجة , لتبقى صلته بالواحد الأحد.

<<  <  ج:
ص:  >  >>