للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

مرحلة الدعوة سراً

قام صلى الله عليه وسلم يدعو ولا يستطيع أن يجهر بالدعوة، كان إذا لقي الرجل وحده، تكلم معه بينه وبينه، ويستكتمه الخبر، وبدأ صلى الله عليه وسلم بالفقراء أولاً والعبيد الموالي، فكان يأتي إلى خباب بن الأرت، وكان خباب حداداً عنده كير، ينفخ عليه في الفحم وينتثر الرماد على وجوه الناس، ولا يأتي خباب أحد، فيأتي صلى الله عليه وسلم إلى خباب، فيجلس معه في الصباح وفي المساء، ويدعوه إلى لا إله إلا الله.

فأتى ذات مرة سيد خباب، قال: ماذا يفعل محمد يوم يأتيك؟ قال: يأتيني يتحدث معي، وهو يدعوه إلى لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي الأخير اجتمعت قريش، وقالوا: أتدرون لماذا يذهب محمد إلى خباب؟ قالوا: لا ندري، قالوا: يتعلم منه القرآن؛ لأن خباباً أعجمي وعنده علم من الكتاب، فمحمد يأتي في الصباح وفي المساء يأخذ العلم والقرآن من هذا، ويخبرنا به في الحرم في المساء، والقصة كلها رد الله عليه بآية: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:٤ - ٥] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:١٠٣].

يقول: هذا القرآن أليس بعربي؟ وخباب أليس بعجمي؟

لا يعرف النطق بالعربية، كيف يتعلم منه القرآن والقرآن أفصح ما تكلم به الناس، لا تستطيع قريش أن تنسج مثل القرآن، ولا تنظم مثل القرآن، فكيف يأتي خباب العجمي المولى الحداد ويخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا؟

ثم كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلقى الرجل فيستكتمه الخبر حتى انتشر الخبر، يقول: كل سر جاوز الاثنين شاع، يأتي صلى الله عليه وسلم وما أسلم معه إلا أربعة: أبو بكر من الشيوخ، وعلي وكان دون العاشرة، وأبوه أبو طالب لم يسلم ورفض، وأسلمت خديجة زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم، وزيد بن حارثة، شيخٌ وصبيٌ ومولى وامرأة.

كان صلى الله عليه وسلم يأتي في غرفة صغيرة، فيقرأ عليهم، فإذا رفع صوته قليلاً بكى أبو بكر حتى يسمع بكاؤه من وراء الحائط؛ لأن هذا القرآن شيء مذهل، وخاصة أنهم يفهمون القرآن، فالعرب ليسوا مثلنا، أمزجتنا نحن قد فسدت لا نفهم القرآن، لكن تصور إذا قرأ صلى الله عليه وسلم القرآن: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:١ - ٣] كان أبو بكر يغلبه البكاء، فكان إذا رفع صلى الله عليه وسلم صوته، أتى كفار قريش فاستمعوا من وراء الحائط وآذوه، وإذا خفض صوته ما سمع منه أبو بكر ولا المصلون وراءه، فقال سبحانه: {ولا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء:١١٠].

قال: لا تجهر؛ فيؤذيك الناس، ولا تخافت بصوتك؛ فلا يسمع منك أصحابك، ولتكن قراءتك وسطاً حتى يسمعك أصحابك، واستمر صلى الله عليه وسلم يدعو، فدعا بلالاً إلى الله عز وجل فاستجاب له، حتى يقول هرقل عظيم الروم، وهو يسأل أبا سفيان وكان في تجارة بعد أن التقى به، قال: أأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟

الذي يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم هم السادة أم الضعفاء؟

قال: بل ضعفاء الناس، قال: هم أتباع الرسل، والله عز وجل يقول: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:١٦].

وهذه من سنن الله في الكون إلا ما ندر، تجد المترفين أبعد الناس عن وعي الكتاب والسنة، حتى تجد قلب أحدهم مثل الحجر، لا يستمع إلى كتاب ولا سنة، وقد يمر به الوقت وهو لا يسمع إلا خطبة الجمعة، وتجده في آخر الصفوف لا يستمع إلى درس، ولا محاضرة، ولا يتدبر القرآن، ولا يعيش سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما وقته في مسلسل، أو أغنية، أو تمثيلية، أو لعب بلوت، أو سكار، أو كمنجة، أو ما يطلبه المستمعون، فتجد أن قلبه كالحجر تماماً.

فالله عز وجل ذكر هذه القاعدة، قال: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:١٦] ولذلك تجد أن عامة الناس وفقراءهم ومساكينهم هم الذين يملئون الجنة؛ لأن الجنة كما وصفها الله، يقول: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:١ - ٣].

قال أهل العلم: تخفض أناساً كانوا مرفوعين في الدنيا، أي: أن الدنيا كانت تشير إليهم، لا يأتي لهم ثمن، وترفع أناساً كانوا مخفوضين في الدنيا في الغرف العالية، نسأل الله من فضله.

فتجد أن مساكين الناس هم أكثر الناس قرباً من الله، وحرصاً على الدروس، واحتفاءً بالدعاة، وأكثر الناس احتراماً لطلبة العلم، ولصوقاً بالعلماء، وأكثر الناس مسألة عن أمور الدين، وأكثر الناس حباً لرسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم ترك أبا جهل وأبا لهب والوليد بن المغيرة، ولو أنه كان يحاول أن يكون بينه وبينهم خيط ممدود أو يصل الحوار معهم، لكن كانوا متكبرين متجبرين ولم يكونوا يتكلمون معه، ولا يسلمون عليه، ولا يردون التحية، ويرسلون له الصبيان يضربونه ويرمونه بالحجارة، بل كان أبو لهب -عمه- يأخذ التراب، ويحثو به على رأس الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: احذروا -أيها العرب- هذا الساحر! احذروا هذا الكاهن! احذروا هذا الشاعر!

كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينزل إلى الحرم في السحر، فكان أبو لهب يرسل امرأته أم جميل فتأتي بالشوك فتضعه في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا خرج صلى الله عليه وسلم أصابه الشوك، ومسح الدم من قدميه، وهو يقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون}.

لقد وجد من الإساءات واللدغات، ومن الأسى واللوعة ما لم يجده أحد، ومع ذلك يقول:: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} فينزل ملك الجبال، فيقول: يا رسول الله! ائذن لي أن أطبق عليهم الأخشبين، إنما هم جثث وطواغيت، لا يساوي الإنسان منهم شيئاً، وفي علم الله يفنيهم بكلمة (كن) فيقول صلى الله عليه وسلم: {لا، إني أرجو من الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا} وفي الأخير يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {تَبَّتْ يَدَا أبي لهب وَتَبّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:١ - ٥] قالوا: من نار تتلظى جزاء ما فعلت.

واستمر عليه الصلاة والسلام يدعو فاستجاب له الفقراء، فوجدوا من النكال ما لا يعلمه إلى الله، انظر إلى الموالي الآن، دعوته عليه الصلاة والسلام تحرر الإنسان، فالذي يريد الكرامة ينتهج دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يلغي العبودية للبشر، أن يأتي بشر مثلك يتسلط عليك، أو تعبده من دون الله، أو تستخذي له، هذا مرفوض في الإسلام، لا.

إنما هو الحوار، أن تكون رجلاً وهو رجل، أن تكون محترماً، بأن تكون لك كرامة وإنسانية، هذا ما يريده الرسول صلى الله عليه وسلم.

فلما سمع الموالي بدعوته صلى الله عليه وسلم، دخلوا في دين الله، أتى آل ياسر وهم أسرة موالي، منهم عمار بن ياسر؛ فدخلوا في دين الله، فأخذهم أبو جهل وعذبهم، فقال صلى الله عليه وسلم وهو يمر بهم: {صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة} ومر صلى الله عليه وسلم على بلال وهو يسحب في رمضاء مكة، في شدة الحرارة وقت الظهيرة على الصخور السود، ويسحب على ظهره وبطنه، فيقول: أحدٌ أحد، أحدٌ أحد، يقولها بلال، حتى انتصر بإذن الله، هذه كلها من أوائل العقبات التي واجهها صلى الله عليه وسلم وهو في مكة.

ولكن أعظم شيء في دعوته صلى الله عليه وسلم، ومما حبب الناس إلى دعوته، أنها تجعل للإنسان احتراماً وقيمة؛ لأن بلالاً كان كالحيوان عند قريش لم يكن له احترام، كان مولى أسود، يقولون: ليس له حق في التعايش ولا تسمع كلمته، ولا يقبل رأيه، فرفض صلى الله عليه وسلم هذا كله.

وقد وجد ذلك أيام الخلافة الراشدة، فهذا عمر بن الخطاب يقوم يوم الجمعة، فيقول: [[أيها الناس! ما رأيكم لو قلت عن الطريق هكذا]] أي: ملت، فيقوم أعرابي من آخر المسجد بدوي، فيسل سيفه، فيقول: [[والله الذي لا إله إلا هو يا أمير المؤمنين لو رأيناك قلت عن الطريق هكذا، لقلنا بالسيوف هكذا]] ماذا يفعل عمر؟ تدمع عيناه! ويقول: [[الحمد الله الذي جعل في رعيتي من لو قلت عن الطريق هكذا، لقال بالسيف هكذا]] فالرسول عليه الصلاة والسلام أتى بهذا المنهج، وهو تقدير الرأي واحترام الإنسان؛ فدخل الناس في دين الله عز وجل زرافات ووحدانا.

كان أبي بن خلف مجرماً من العتاة الكبار وهو من سادات مكة، نزل والرسول عليه الصلاة والسلام يطوف، فجمع كفار قريش فاجتمعوا عليه، فبصق أُبي -عليه لعنة الله- في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخذها صلى الله عليه وسلم وأسرها في نفسه، ثم وقف عند المقام فدعا عليهم.

فأما السبعون الذين دعا عليهم فقتلوا جميعاً في بدر، يقول أحدهم بعدما أسلم: والله ما زلت أعلم أنهم سوف تصيبهم قارعة بعد أن دعا عليهم صلى الله عليه وسلم عند المقام، السبعون جميعاً ذبحوا على الكفر في بدر، هذه شلة أبي جهل، وأما أُبيّ بن خلف فإن الله أراد أن يخزيه، ولم يقتل في بدر فر وشرد ببغلته في أول المعركة فتوعده عليه الصلاة والسلام، فذهب إلى مكة فقال: أين أقاربي؟ فقالوا: قتلوا جميعاً في بدر، فأخذ يعلف فرسه، يأخذ صاع البر ويعطي فرسه، ويقول: كُلْ سوف أقتل عليك محمداً، ويأخذ السيف ويملؤه سماً شهراً كاملاً حتى أصبحت سلة السيف زرقاء من السم.

فوصل الخبر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا رسول الله! يقول أبي بن خلف سوف يقتلك، قال: أنا أقتله إن شاء الله، يقول المتنبي:

وما كنت قرناً غالباً لقرينه ولكنه التوحيد للشرك هازم

حضر أبي بن خلف معركة أحد، فقال لكفار قريش: ما رأيكم أن تعفوني من المعركة وأنا أقتل لكم محمداً، قالوا: ما دام أنك تقتله فلا تقاتل معنا، فترك المعركة، وجلس في وادٍ وحده، فلما انتهت المعركة، انتهت بقتل سبعين من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن الرماة خالفوا أمره، وانتهت وقد كسرت رباعية الرسول صلى الله عليه وسلم هذه، ودخل المغفر في رأسه؛ لأنه لم يكن يفر في المعركة، كان هو في الصف الأول دائماً، وانتهت والدم يغشى وجهه الشريف عليه الصلاة والسلام وبه من التعب والإعياء ما الله به عليم، ثم مر ووجد حمزة مقتولاً، وقد بقرت بطنه، فغضب وتغير عليه الصلاة والسلام، وقال: {والذي نفسي بيده، لئن ظفرت بهم لأمثلن منهم بسبعين} فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:١٢٨] فتأثر صلى الله عليه وسلم، وفي تلك اللحظة يقول للصحابة صلى الله عليه وسلم: {صفوا ورائي لأثني على ربي}.

يقول أحد المفكرين: لله درك! في هذه الضربات الأليمة التي وصلتك في عرضك وجسمك وأصحابك وقرابتك، ومع ذلك تقول: أثني على الله، ثم صلى بهم العصر، فلما سلم وإذا بـ أُبي بن خلف ذلك المجرم يقبل على فرس، يقول بعض الرواة: كأن الجبل أقبل معه، الفرس قوي والرجل شجاع، وأقبل ومعه سيف وقد تغطى بدرع كله من تحت الثوب، حتى لم يترك إلا مقدار الدرهم في نحره، فأقبل ومعه السيف يريد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقام الأنصار بالسيوف يريدون أن يتناولونه، قال صلى الله عليه وسلم: دعوه، عليَّ بحربة، فأعطوه حربة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: بسم الله، والله يقول: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:١٧].

يقول: أنت لم تسدد الرمية إنما أنت أطلقتها، لكن الله رمى.

رمى بك الله جنبيها فحطمها ولو رمى بك غير الله لم يصب

قال: باسم الله، قال: فأرسلها فتركت كل جسمه، ودخلت في هذا المكان، فوقع رأس الحربة في نحره، فرجع هو على فرسه إلى كفار قريش: قالوا: مالك؟ قال: قتلني محمد، قالوا: ما قتلك إنما هي قطرة دم في نحرك، قال: دعوني، ثم أقسم بالله لو أن ما بي هذه الطعنة بأهل سوق ذي المجاز لماتوا عن بكرة أبيهم، يقول: لو أن هذه الطعنة أصابت العرب في سوق ذي المجاز، لماتوا فأقبلوا يدفئونه بالنار فأخذ يخور كالثور ثم مات مع الغروب، وصدق صلى الله عليه وسلم حين قال: {أقتله إن شاء الله}.

وخرج أبو بكر وإذا الرسول صلى الله عليه وسلم قد اجتمع عليه كفار قريش عند الحجر الأسود، يقولون: لا تطف، ويقول: بل أطوف، انظر هذه الشراسة، قبيلة تتحدى الرسول صلى الله عليه وسلم في شخصه، حتى يبكي ويشكو إلى الله، يقول: {إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني، أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن ينزل بي سخطك، أو يحل عليّ غضبك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك} فينجده الله عز وجل.

يأتي أبو بكر والناس قد تواطئوا عند الحجر يريدون ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: [[أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله؟]] فمالوا على أبي بكر فضربوه حتى أغمي عليه، فلما رفعوه وأفاق، قال: كيف حال الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: بخير، قال: لا أهدأ ولا أرتاح حتى أراه، فأتوا بالرسول صلى الله عليه وسلم فدخل على أبي بكر الصديق، ولذلك قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:٣٣].

من الذي جاء بالصدق؟

محمد صلى الله عليه وسلم.

ومن الذي صدق به؟

أبو بكر، وما اسم أبي بكر؟

اسمه الصديق، وهذا المسجد اسمه مسجد أبي بكر الصديق، وهو واحد من آلاف المساجد في العالم الإسلامي في الكرة الأرضية باسم هذا الرجل الذي تولى الخلافة رضي الله عنه وأرضاه وتركها، لكن ما تركها عفوياً، لما أتته الوفاة، قال: [[والله ما أخذت من مال المسلمين قليلاً ولا كثيراً، إذا حضرت الوفاة فخذوا هذين الثوبين وهذه البغلة، واذهبوا بها إلى عمر وقولوا: هذا الذي بقي من مال المسلمين، واتقِ الله يا عمر، لا يصرعنك الله مصرعاً كمصرعي]].

ووصلت هذه الرسالة إلى عمر فبكى حتى جلس، وقال: [[أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر]].

هذا طراز أبي بكر وعمر، نحن قدمنا للعالم أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وأحمد ومالك وابن تيمية وابن القيم؛ فدخلوا في دين الله أفواجاً، فلما قدمنا لهم الحجاج وأبا مسلم الخراساني والحاكم بأمر الله الفاطمي والخميني وصدام حسين رفضوا الإسلام؛ لأنهم يظنون أن هؤلاء يمثلون الإسلام في هذه الفترة، فعلينا أن نعود أصلاً إلى رسالته صلى الله عليه وسلم، وإلى سيرته العطرة.

واستمر صلى الله عليه وسلم يدعو، وقام كثيرٌ من بيوت قريش، فما من بيت إلا ودخله الإسلام، ومنهم الشباب سعد بن أبي وقاص، خال الرسول عليه الصلاة والسلام، سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما أراد عمر أن يفتح إمبراطورية كسرى، وأن يدمرها ويسحقها على رأس هذا المجرم كسرى أنوشروان.

لقد حكم هو وأسرته ألف سنة، أراد عمر أن يفسد هذه الإمبراطورية ويخزيها ويسحقها، ماذا فعل؟ قال: أريد قائداً، وجهز عمر جيشاً، فبات الصحابة في الليل يريدون أن يختاروا قائداً، وفي الصباح رشَّح عمر نفسه، قال: أنا قائد الجيش، قال: علي بن أبي طالب: لا يا أمير المؤمنين، لا أرى أن تذهب أنت، أرى أن تبقى في عاصمة الإسلام، قال للصحابة: ما رأيكم؟

قالوا: صدق علي، قال: التمسوا لي رجلاً يقود الجيش، قالوا: دعنا يا أمير المؤمنين نفكر، فدخلوا في الخيام والبيوت يفكرون وقليلاً وإذا عبد الرحمن بن عوف يقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، وجدت الأسد في براثنه، قال عمر: من هو؟ قال: سعد بن أبي وقاص، قال: صدقت، فولاَّه.

هذا سعد رضي الله عنه، الذي قاد المعركة الفاصلة قادسية الإسلام، ليست قادسية صدام الكذب والخيانة، وقلة الأمانة، وقلة الحياء والفشل والخزي والعار إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

هذا سعد بن أبي وقاص الذي رفعنا، ونحن الآن بدون سعد وعمر وأبي بكر، وبدون صلاح الدين لا نساوي صفراً، لأننا عندما تركنا مسيرة سعد وصلاح الدين ونور الدين وأمثالهم قتلتنا جولد مائير وأخزت جيوشنا وطردت شبابنا، وضربت مطاراتنا، وهي عجوز في السبعين من عمرها، فنحن في التراب حتى نعود إلى صلاح الدين ونور الدين وعمر وعمر بن عبد العزيز.

أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع

أما العروبة، والمظلة العربية، والأخوة العربية، والدم العربي:

وحدويون والبلاد شظايا كل جزء من جسمها أجزاء

ناصريون نصرهم أين ولَّى حين داست على الجباه اليهود

هذه هي الناصرية، وهذه هي العروبة والقومية، قومية أيلول، وقومية الكويت، وقومية حماه، وقومية بعاث وداحس والغبراء.

سعد بن أبي وقاص أسلم وهو شاب، فقالت أمه: لماذا تسلم؟

صبأت عن دينك ودين آبائك وأجدادك، وهكذا يطارد الإنسان المهتدي، الآن بعض الشباب إذا اهتدى وكان في بيته طاغوتاً، أي: أب منحرف أو أم منحرفة، تقول: أصبحت مطوعاً، لماذا تقصر الثوب واللحية؟ تتبع من؟ أتيت لنا بدين جديد، نشأنا أنا وأبوك وجدك نستمع الغناء والحمد لله ليس بحرام -تفتيه- والمسلسل، ونصلي ونصوم ونعبد الله، ونختلط مع الرجال وليس في قلوبنا شيء، والحجاب هذا بدعة، وشددت علينا بهذا الدين، وهذا ما واجهه سعد بن أبي وقاص، كما يواجهه البشر دائماً، يقول: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:٢٣].

فقالت أمه: والله لا آكل ولا أشرب حتى تعود عن دينك؟ قال: يا أماه! ديني حق، وأخبرها، قالت: والله لا آكل ولا أشرب حتى تعود عن دينك، قال: يا أماه! قالت: نعم.

قال: [[والذي لا إله إلا هو، لو كان لك ألف نفس، فخرجت نفساً نفساً ما عدت عن ديني]] فلما قال ذلك، أنزل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الْإنسانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:٨].

وأنا أنبه الشاب والأخوة جميعاً، أن بعض الأخوة يتصور مسألة أنه إذا وجد أباه عاصياً أو أمه عاصية، يرى أنه لا يجوز له أن يطيعهما، أو أن يواليهما أو ينفق عليهما أو أن يزورهما، وهذا خطأ، الأب ولو كان مشركاً، ولو كان طاغوتاً، ولو كان على مذهب ماركس، فعليك أن تزروه، وأن تنفق عليه، وأن تصاحبه بالمعروف، لكن لا تحبه ولا تواله، وبعض الناس تجده يعصي أباه، وإذا قلت له: لماذا تعصي أباك؟

قال: لا يصلي في المسجد، فنقول له: لا يعفيك هذا في الإسلام، يقول سبحانه تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:١٥] فمعروف الوالدين لا بد ولو كانا كافرين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>