للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[موقف أبي لهب من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم]

يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:٥٦] قام أبو لهب؛ فقال للرسول صلى الله عليه وسلم: تباً لك ألهذا دعوتنا؟ ألهذا جمعتنا؟ يقول: أتعبتنا من أجل هذه الكلمة؟! فتولى الله الرد عليه، وقال: {تَبَّتْ يَدَا أبي لهب وَتَبّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:١ - ٥] يقول بعض أهل التفسير {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد:٤] أي: تمشي بالنميمة، وقال بعضهم: بل وضعت الشوك في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الظاهر.

فتصدعت القبائل تريد قتله عليه الصلاة والسلام وتجمعوا وذهبوا عامدين بسيوفهم وسلاحهم إلى بيت أبي طالب، وهو أكبر أهل مكة ذاك الوقت وهو الذي يديرهم، فاجتمعوا؛ فقالوا: نشكو إليك ابن أخيك هذا، سب آلهتنا، وسفَّه أحلامنا، إن كان يريد ملكاً ملّكناه، وإن كان يريد زوجة زوجناه، وإن كان مسحوراً بحثنا له عن طبيب فداويناه {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:٢٢] يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: صاحبكم عنده دواء الجنون، أما أن يكون مجنوناً فلا؛ لكنه يداوي المجانين: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:٢٢ - ٢٤].

يقول: هل سمعتم أنه يخون الغيب أو أنه بخيل بالغيب أو أنه مظنون بعدالته؟ لا يكون ذلك فيه عليه الصلاة والسلام، اجتمعوا، فقال أبو طالب وكان عاقلاً: أرجئوني يوماً، قالوا: لك يومين -وكانوا عندهم عقول، لكن ما أجدت وما أغنت عنهم، عقول لكن في الدنيا مثل عقول بعض الناس: ثقافته في الدنيا لكن ليس له ثقافة فيما يقربه من الله، ليس عنده ثقافة في الإيمان، يعرف كل شيء إلا أمور الإيمان- فذهبوا، فأتى أبو طالب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى هذا اليتيم الذي يريد أن يشق العالم، وقال له: ماذا تريد؟ قال: يا عم! أريد أن يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، قال: إنهم عرضوا عليك أموراً، وأرى أن تكف عنهم ويكفوا عنك، وأخبره، قال: {والذي نفسي بيده، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه} فقام وتركه، ثم رجع له أبو طالب، فقال: يا بن أخي! افعل ما بدا لك، والله لأحمينك وأنصرنك حتى لو أقتل دونك، ثم نظم فيه قصيدة لامية رائعة، هي موجودة في السير، يمدح فيها الرسول صلى الله عليه وسلم:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

ويقول في قصيدة أخرى:

والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا

يقول: لن يصل إليك كفار قريش أبداً، وهو صادق، فاستمر في حمايته، واستمر صلى الله عليه وسلم يصدع ويخطب، ثم مرت به اللدغات واللذعات والأسى واللوعة، واسمع إلى بعض المواقف.

في اليوم الثاني: نزل صلى الله عليه وسلم، فجلس في الحرم، فحانت وقت الصلاة؛ فقام صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام، فلما سجد قال أبو جهل: مَن مِن شبابكم يذهب فيأتي بسلى ناقة آل فلان فقد ولدت؛ فيضعها على رأسه، فذهب رجل: يشتد أي: يسعى حتى أتى بها، فلما سجد صلى الله عليه وسلم وضعها على رأسه، قال ابن مسعود: وكنت أنظر وما أغني عن الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً، لأن ابن مسعود فقير ويتيم ولا يستطيع أن يفعل شيئاً، والحرم كله يمتلئ بهؤلاء الطواغيت، قال: فأتت فاطمة؛ وألقت عنه الأذى وأخذت تبكي، فقام صلى الله عليه وسلم؛ فاستقبل القبلة؛ ورفع يديه ودعا، قال ابن مسعود: {والذي لا إله إلا هو، لقد كانوا في الحرم سبعين، وما من أحد ممن رأيت إلا رأيته قتيلاً في بدر}.

السبعون كلهم قتلوا جميعاً في بدر، وقد ألقى فيهم صلى الله عليه وسلم خطبة عصماء وتكلم فيهم، وقال: {هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً، فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً}.

واستمر عليه الصلاة والسلام، قال الله له: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء:٢١٥ - ٢١٦] فجمعهم صلى الله عليه وسلم، وقال: {إن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعاً ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون}.

كل شيء تفهمه قريش إلا مسألة كيف يعود الإنسان إذا مات: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:٢٤] {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:٧].

أتى أعرابي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: {يا محمد! أومن أن ما جئت به حق وأصدقك، لكن هناك مسألة حاكت في صدري، قال: ما هي؟ قال: كيف يبعثنا الله بعدما نموت؟ قال: أأنت في شك من ذلك؟ قال: بلى.

قال: أما مررت بروضة خضراء؟ قال: بلى مررت بها} يتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم معه؛ لأنه صاحب غنم يعرف الروضة الخضراء، ولذلك ترى القرآن يخاطب الأعراب الأوائل، بالجمل، والسماء، والنهر، والماء، والشجرة، والخيمة، والصوف في سورة النحل؛ لأنهم هم الذين يعرفون هذه الأمور، قال: {أما مررت بروضة خضراء؟ قال: بلى مررت بها، قال: فمررت بها بعد حين؟ قال: نعم قال: فكيف وجدتها؟ قال: وجدتها ميتة هامدة، قال: فمررت بها بعد حين؟ قال: نعم.

قال: فكيف وجدتها؟ قال: وجدتها خضراء مزهرة، قال: فمن أحياها؟ قال: الله، قال: فالذي يحيي هذه يحيي هذه}.

<<  <  ج:
ص:  >  >>