للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الشجاعة والاستقلال الفكري عند شيخ الإسلام]

رابعاً: الشجاعة والاستقلال الفكري:

المعلومات لا تنفع صاحبها حتى يؤديها بشجاعة، وحفظك للصحيحين لا ينفعك إذا كنت تخاف من القط، والذي دائماً يتوجس من النار لا يستطيع أن يبلغ كلمته بقوة وبحرارة وبهدوء في نفس الوقت.

وكان ابن تيمية يمتلك هذه المواهب، كان عنده علم، وكان عنده -أيضاً- قلب كقلب الأسد، يدخل على الناصر قلاوون؛ هذا الناصر قلاوون تدرون، يقول: إذا التفت هكذا في اليمين خفض الوزراء رءوسهم -الموت الأحمر- الناصر قلاوون يدوس الملوك، كان ملك مصر وملك الشام، وكان ينظر شزراً وما ابتسم منذ خمسين سنة، لا يعرف الابتسامة، استدعى ابن تيمية وقد سجنه أولاً في دمشق، واستدعاه في الإسكندرية ليحاكمه، وأخذ ابن تيمية أكفانه تحت ثوبه، ودخل عليه متطيباً متوضئاً، فجلس أمام الناصر قلاوون والسيوف مسلولة، تنتظر رأس ابن تيمية لتقطفه كقطف الزهرة، من يدافع عن ابن تيمية وليس أحد إلا الله؟! فجلس ابن تيمية على ركبه، فقال: تكلم.

قال: بسم الله الرحمن الرحيم، إن الحمد لله.

قال الناصر: ما أرسلنا لك لتخطب علينا.

قال: اسكت! فسكته، ثم اندفع يتكلم بقال الله وقال الرسول، وكاد هذا الناصر يتميز غيظاً، فأخذ يرتعد ويرتعد ويرتعد، وأخذ الناس يجلسون، وأخذ الوزراء يرفعون ثيابهم خوفاً من دم ابن تيمية.

قال: ماذا جئت له؟ قال أولاً: أبطل المكوس التي جعلتها على الأمة -أخذ أموال الأمة ظلماً، والمكوس هي الضرائب والجمارك- أبطلها الآن، قال: سمعاً وطاعة! ثانياً: أخرج الأسارى الذين عندك من المسلمين.

قال: سمعاً وطاعة! فخرج، ثم قالوا الناصر: كيف وجدته؟ قال: كاد يخلع قلبي! "

وهذه هي الاستقلالية التي يعرفها ابن تيمية.

دخل على ابن قطلوبك وهو سلطان الشام ووقف أمامه قائلاً: "يا ابن قطلوبك الآن اخرج قاتل التتار؟ قال: يا ابن تيمية لا نستطيع فالتتار اجتاحوا العالم الإسلامي، خرجوا من شمال الصين حتى وصلوا إلى إيران ثم الشام بشر لا يعرفون شيئاً، الثور ترده أما هو فلا يرتد، يمكن أنه تحبس الثور لكن التتري المغولي لا يرتد، يشربون الماء من البحيرات، يأكلون الجراد، يقطفون الشجر ويأكلونه، ويدوسون الأطفال، جاءوا من سيبيريا مثل زحف الجراد، فدمروا بغداد ووصلوا إلى دمشق، فأتى ابن تيمية، ودخل على السلطان، وقال: الآن أعلن حالة الاستنفار -والسلطان ضعيف- قال: لا أستطيع.

قال: تخرج تعلن.

قال: أخاف أن نغلب.

قال: والله لتنتصرن، قال: قل إن شاء الله.

قال: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، وخرج ابن تيمية يقود الجيش، وأخذ الكأس يوم الجمعة في ١٧ في دمشق أمام الناس الألوف المؤلفة فقال: "اشربوا باسم الله، أفطروا في رمضان فأنتم تجاهدون العدو" فأفطروا وقاتلوا وانتصروا.

والشجاعة والاستقلال الفكري هي أن تقول للمخطئ: أخطأت، ولكنه يراهن برأسه، يرفع عمامته ينتظر متى يقطع رأسه بين الفينة والأخرى؛ لأن ابن تيمية ليس عنده أطفال في البيت، ولا عنده زوجة تنتظره، ولا عنده جماهير، ولكنه يريد جنة عرضها السموات والأرض:

وليس على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما

تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما

يقول سراج الدين في العقود الدرية: "وكان إذا ركب الخيل يجول في العدو كأعظم الشجعان، ويقوم كأثبت الفرسان، وينكل العدو من كثرة الفتك بهم، ويخوض بهم خوض رجل لا يخاف الموت"

أتى غازان -ابن قائد المغول (التتار) هولاكو الذين اجتاحوا العالم الإسلامي- فنزل قريباً من دمشق، فجاء ابن تيمية لأصحابه في دمشق، قال: "تخرجون معي أكلم ملك التتار؟ قالوا: لا تعرض دماءنا يا بن تيمية للسفك.

الله الله يا بن تيمية، قال: أهدأ إن شاء الله -أي: أخذوا عليه موثقاً أن يهدأ- فخرج معه ثلاثمائة من المسلمين الصالحين العلماء، لكن العلماء يصبحون عنده تلامذة:

فإنك شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهن كوكب

ولما وصل إلى غازان، أخذ يحدثه عن الظلم، وعن الفتك، ويقول: "أنت ظالم، أبوك كان خيراً منك، مع أنه كان كافراً وأنت مسلم لكنه ما فعل بالمسلمين مثل ما فعلت.

فأخذ الناس يتكفكفون عن الدماء، وبعدما انتهوا، قال العلماء: والله لا نرافقك بعدها ولا نصاحبك، كدت تقدم رءوسنا" -كما روى ابن كثير - وعودوا إلى كتابه البداية والنهاية.

قالوا: والله لا نرافقك، فأتوا من طريق، وأتى وحده من طريق، فلقي أصحابه من العلماء لصوصاً في الطريق فشلحوهم، وهو نجا بإذن الله، واستقبلته دمشق تحييه عن بكرة أبيها، استقبال الفاتحين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>