للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تدبير الخطة لقتل يوسف]

اجتمع إخوة يوسف، ويوسف ليس معهم، وقال قائلهم: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:٨] إخوان في بيت واحد من أب واحد قالوا: أخطأ حين قدم أخانا، لماذا يقبله أكثر مما يقبلنا؟ لماذا يجلسه بجانبه ولا يجلسنا بجانبه؟ ولذا فهذا درس في التربية؟ من كان عنده أبناء أو بنات فلا يميز أحدهم على الآخر، فإن هذا يورث الضغينة والحقد بينهم، إلا أن يكون طفلاً صغيراً فله أن يميزه بين الآخرين: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:٨] فكانت النتيجة: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} [يوسف:٩] مكيدة ما سمع التاريخ بمثلها، شاب بريء طفل عاقل من أبناء النبوة، وليس البعيد الذي سيقتله بل إخوانه: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً} [يوسف:٩] أو اذهبوا به إلى أرض بعيدة، وسوف تنفردون بأبيكم وينفرد بحبكم -وظنوا أن هذا سوف يحدث- ثم تتوبون من الخطأ وتستغفرون من الجريمة ويتوب الله عليكم.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[نووا بالتوبة قبل الذنب]] {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [يوسف:٩ - ١٠] والقائل أظنه أكبرهم، القتل صعب وجريمة نكراء، فتحرك هذا الأخ برحمة الأخوة والقرابة والعاطفة، وقال: لا تقتلوه وألقوه في بئر مغيبة إن كنتم مصممين على هذه الفعلة، وأجمعوا أمرهم على هذه المكيدة، ولكن من يخرج يوسف من بين يدي أبيه عليه السلام، فيأتون ويجلسون:

كاد المريب أن يقول خذوني.

فيقولون: يا أبتاه! مالك لا تأمنا على يوسف أنحن خونة؟! أتشك فينا؟! ماذا فعلنا هل أسأنا إليه! نحن نحبه -والله- وننصح له ولا نريد إلا الخير له: {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف:١١ - ١٢] أرسله غداً معنا يرعى الغنم، وهم لا يحتاجون راعياً فإنهم أحد عشر، وربما كان بعض الرعاة أكثر من الغنم، فهم لا يريدون أن يعاونهم بالرعي، ولكن أضافوا عذراً آخر وقالوا: ويلعب، فهو لم يشك ولكنهم شككوه.

{قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف:١٣] أولاً: أجد وحشة أن يخرج من بيتي، وأخاف أن يأكله الذئب، قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[لو لم يقل لهم أخاف أن يأكله الذئب، لما قالوا له في الأخير أكله الذئب]] لأنه ليس في أذهانهم أنهم سيقولون: أكله الذئب.

فهم يقولون: نلقيه في غيابة الجب ولم يجهزوا عذراً لكنه فتح لهم طريقاً وأتى لهم بعذر، فقال: أخاف أن يأكله الذئب، ولذلك في بعض الآثار: أن الله عاقب يعقوب عليه السلام بسبب هذه الكلمة أن أفقد عليه ابنه أربعين سنة، وأوحى إليه، قال: يا يعقوب! أخفت الذئب ولم تخف مني ولم تثق بي، كيف تقول: أخاف أن يأكله الذئب، ولم تقل كما قلت في آخر القصة: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:٦٤]؟ ولذلك في آخر السورة بدأ يغير من هذا لكلام فكان يقول: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:٦٤] فخرجوا، وعذر أكل الذئب في أذهانهم.

فلما أصبحوا في الصحراء بغنمهم، الغنم ترتع وهم يلعبون والجو ساكن وهادئ، والطيور تغرد وتزغرد، ولكن القلوب تغلي بالحقد على الأخ القريب الصغير، فأخذوه أول ما وصلوا إلى الصحراء ولم يتركوه يرتع ويلعب كما قالوا، وإنما قيدوه بحبل وأنزلوه في البئر، فأخذ يستغيث ويظن أنهم يمزحون، وقد خيروه بين القتل، وبين أن يطرحوه في البئر:

كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً وحسب المنايا أن يكن أمانيا

تمنيتها لما تمنيت أن ترى صديقاً فأعيا أو عدواً مداجياً

فأنزلوه وهو يتشبث بالحبل ويبكي، ويقول له أخوه الأكبر وهو يستهزئ به ويتهكم، كما في الآثار: [[هذه أحد عشر كوكباً وهذا الشمس والقمر يسجدون لك]] فأخذ ينزل في الحبل، وذكر ابن رجب في جامع العلوم والحكم أنه لما نزل أخذ يقول: "حسبي الله ونعم الوكيل" ويقول: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:٨٣] قال ابن عباس وهو يبكي عند قراءة سورة يوسف: [[هدأت الحيتان في البحر من التسبيح، ولم يهدأ يوسف عليه السلام من التسبيح]] فأنزلوه، فلما نزل قطعوا الحبل فبقى في حفظ الله، فصار في حفظ الله ورعايته، وفي عين الله.

وإذا الرعاية لاحظتك عيونها نم فالحوادث كلهن أمان

يا واهب الآمال أنت حفظتني ومنعتني

وعدا الظلوم علي كي يجتاحني فحميتني

فانقاد لي متخشعاً لما رآك نصرتني

قطعوا الحبل وتركوه في البئر، وهو يلهج بذكر الله في صحراء ليس معه فيها إلا الله، الذئاب حوله والجو مقفر، لا خبز ولا ماء ولا طعام ولا أهل ولا جيران ولا أحبة، لا ماراً يمر، وإنما الذئب يعوي في صحراء مدوية:

عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوّت إنسان فكدت أطير

<<  <  ج:
ص:  >  >>