للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[رسالة ملك غسان لكعب بن مالك]

قال كعب بن مالك: كنت أنا أشب القوم -كان أصغر الثلاثة- فكنت أنزل إلى الأسواق فلا يكلمني أحد، أسلم فلا يردون، قال: بينما أنا بالسوق إذا بنبطي -النبطي هذا يبيع ملابس، وقد أتى من الشام، وهو أعجمي أرسله ملك غسان برسالة إلى كعب بن مالك يريد أن يغرق بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم- قال: ففتحت الرسالة -وكان كعب يقرأ- فإذا هي من ذاك الملك يقول: لم يجعلك الله بدار مضيعة، وإنا سمعنا أن صاحبك قد جفاك، فالحق بنا نواسِك -يقول: الحق بنا واترك الدين؛ فإن صاحبك محمداً صلى الله عليه وسلم جفاك- قال كعب: فقلت: هذا من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرتها -التنور هو الكانون، سحرتها أي: أحرقتها.

ثم لبث في بيته حتى تمت خمسون ليلة.

وقد يقال الثمانون؟ أما تخلف ثلاثة وثمانون، ثلاثة يعيشون المرارة والأسى واللوعة والقلق والاضطراب، وثمانون أين هم؟

الثمانون منافقون جميعاً، عفا عنهم صلى الله عليه وسلم وما عاتبهم؛ لأن هؤلاء منافقون، وحسابهم على الله ولا ينفع فيهم الهجر، فهو كافر فكيف يعاتبه صلى الله عليه وسلم؟

أما كعب بن مالك وصاحباه فإن فيهم خير وإيمانٌ وجهاد وصدق، والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث.

فقد أساءوا لكنه صلى الله عليه وسلم يمحصهم بالعتاب، والعتاب فيه مرارة، حتى يقول كعب بن مالك: {كنت أنزل فأحضر الصلاة مع الرسول صلى الله عليه وسلم -صلاة الفريضة- قال: إذا أتيت وهو يصلي سلمت عليه، وقال: وإذا كان جالساً سلمت عليه، فوالله لا أدري هل يرد عليَّ السلام أو لا، قال: فإذا سلمت من صلاتي أقبل على شأنه عليه الصلاة والسلام، فإذا قمت أصلي التفتَ إليَّ عليه الصلاة والسلام} وتصور الصورة، الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يعاتب ويربي أحد تلاميذه الأخيار الأبرار الصادقين مع الله- يقول: إذا قمت أصلي النافلة أتى صلى الله عليه وسلم ينظر فِيَّ ويتفقد حالي ويمد بصره فيَّ، قال: {فإذا سلمت رجع عليه الصلاة والسلام ونكس رأسه}.

فلما تمت لهم خمسون ليلة أتى الفرج من الله، من فوق سبع سماوات، ليس من أحد، وإنما من الله.

أما المنافقون فالله يقول: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:٤٣] يقول: ما لكَ تعفو عنهم وهم قد كذبوا على الله وخانوا شرعه، وعطلوا الجهاد في سبيله؟! فلماذا تعفو عنهم؟! إنما عفا عنهم صلى الله عليه وسلم، فعفا الله عنه ثم عاتبه.

فتمت خمسون ليلة وأتى العفو من الله عز وجل، قال تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:١١٨].

<<  <  ج:
ص:  >  >>