للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[توبة الله على كعب وصاحبيه]

قال كعب: {فصليت الفجر على بيتي} كان بيته في سلع وسلع جبلٌ في المدينة قريب من مسجده صلى الله عليه وسلم، يقول صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: {إذا بلغ البناء سلعاً فاخرج من المدينة} أي: إذا تطاول الناس بالبنيان والعمران وبلغَتْ جبل سلع فاخرج من المدينة، فلما بلغ البناء سلعاً خرج أبو ذر إلى الربذة.

فصلى كعب بن مالك صلاة الفجر مكانه، قال: {ولما سلمت من الصلاة، وإذا برجلٍ على فرس أقبل يريد أن يبشرني وبرجلٍ آخر على قدميه على جبل سلع} يعني: الذي يمشي على رجليه صعد الجبل، والفارس أتى من الوادي يريدان جميعاً أن يبشراه، وهذه شيمة المؤمن أنه يفرح لأخيه ويبشره إذا وقع ما يسره، وأن يقدم له ما يفرحه؛ فإن هذا من عمل الخير ومن شيم المؤمنين، قال: {فسبق صوت ذاك الرجل الذي على الجبل - فقد أراد الفارس أن يسبقه بالفرس، لكن ذاك صاح- وقال: يا كعب بن مالك! أبشر بتوبة الله عليك، أبشر بخير يوم منذ ولدتك أمك، قال: فسجدت لله شاكراً} وهذا سجود الشكر.

وإذا الحسن همى فاسجد له فسجود الشكر فرض يا أخي

وحسان الكون لما أن بدت أقبلت نحوي وقالت لي إليَّ

فتعاميت كأن لم أرها حينما أبصرت مقصودي لدي

والرسول صلى الله عليه وسلم كان يسجد سجود الشكر إذا أتاه ما يفرحه ويسره عليه الصلاة والسلام، وفي إحدى المرات نزل صلى الله عليه وسلم من على الدابة وسجد على الأرض والحديث حسن، فقال سعد بن أبي وقاص: {ما لك يا رسول الله؟ قال: أخبرني جبريل الآن أن الله يقول: لا يصلي عليك رجلٌ صلاة إلا صليت عليه بها عشراً} فسجد عليه الصلاة والسلام من هذه النعمة، وأتاه كتابٌ من علي من اليمن يبشره أن قبائل همدان قد أسلمت، فسجد عليه الصلاة والسلام شاكراً لله، وقال: {السلام على همدان، السلام على همدان، السلام على همدان}

وللفائدة: لا يشترط في سجود الشكر الوضوء، بل إذا أتاك ما يسرك ويفرحك فضع رأسك فرحاً لله عز وجل، خاصةً في الأمور الدينية، وتأتي الأمور الدنيوية تبعاً، لكن بعض الناس لا يظن أنه انتصر إلا إذا حصل على وظيفة أو منصب أو مال أو سيارة أو قصر، أما أمور الدين فلا يحسب لها ذلك الحساب: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:٥٨] فسجد رضي الله عنه ورفع رأسه.

قال: {وكان عندي ثوبان} وهم فقراء، وغنيهم قد يعادل فقيرنا اليوم، هو من أحسن الحال، عنده ثوبان وهو يحمد الله عز وجل على أن عنده ثوبين، لكن عند بعضنا اليوم ثلاثين ثوباً، عشرة زرق وعشرة بيض وعشرة صفر، وللعيد ثياب، وللأضحى ثياب، وللعرس ثياب، وللجمعة ثياب، بذخ، أما عنده فقال: {كان عندي ثوبان -وفي رواية البخاري كان عندي إزارٌ ورداء- قال: فلبست لباساً قديماً ثم أعطيت هذا المبشِّر} من بشرك بشيءٍ فلك أن تعطيه شيئاً من المال، فلا يكون الإنسان جافاً مثل الحجر صلداً، لابد من شيء، قال: {فلما بشرني خلعت له ثوبي ولبست ثوباً قديماً وسلمت له الثوب -هذا جزاء البشارة- وذهبت إلى ابن عمي، فاستعرت منه ثوباً فلبسته} لبس ثوباً جديداً ليلقى به الرسول صلى الله عليه وسلم.

ومضى إلى المدينة، إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم حوله أصحابه، وهو جالس وسطهم كالبدر يقول شوقي:

لما خطرت به التفوا بسيدهم كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم

يقول: مثل هؤلاء مثل النجوم إذا حفت بالقمر ليلة البدر أو مثل الجنود إذا حفوا بالعلم، فالعلم محمد عليه الصلاة والسلام، والقمر محمد عليه الصلاة والسلام، والجنود أصحابه، والنجوم أصحابه.

أتى كعب رضي الله عنه وأرضاه مسرعاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ودخل المسجد على الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: {فإذا وجه الرسول صلى الله عليه وسلم كأنه قطعة قمر، وكان صلى الله عليه وسلم إذا سر بالأمر رئي وجهه يبرق من السرور} حتى قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: {كنت إذا رأيت وجه الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ أنظر إلى أسارير وجهه فأتذكر قول سويد بن كاهل:

ومبرأ من كل غبر حيضة وفساد مرضعة وداء مغيل

وإذا نظرت إلى أسرة وجهه برقت كبرق العارض المتهلل

}

ولذلك سر عليه الصلاة والسلام يوم تاب الله على أحد أصحابه، والتوبة لا يعادلها شيءٌ في الدنيا أبداً، والله ما قصور الدنيا، وملكها، وذهبها وفضتها تعادل توبة الله على العبد يوم يتوب على عبده الصالح ويعيده إليه!

<<  <  ج:
ص:  >  >>