للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الوقفة التاسعة: أحكام الصلاة في السفر]

المسألة التاسعة: مسألة القصر في السفر، ما هي المسافة المطلوبة في القصر؟ وما هو هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة في السفر؟

اعلموا بارك الله فيكم، وقد علم كثير منكم أو علمتم جميعاً أن أقوال العلماء في مسافة القصر في السفر متعددة متشعبة، بعضهم قال: يقصر في بردان أو ثلاثة برود أو أربعة، كما بين مكة إلى عسفان، وما بين مكة إلى جدة، وما بين مكة إلى الطائف، وقد نُقل هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما في صحيح البخاري تعليقاً، وأتى مسنداً عنه صحيحاً إليه، وذكره ابن تيمية في المجلد الثالث والعشرين من فتاويه، وورد عن أنس أنه فرسخ، وورد عنه أنه ميل، وورد عن آخرين قولهم: مسافة ثلاثة أيام، وآخرين: يومان، وغيرهم أربعة فراسخ، واضطربت الأقوال في هذه المسألة.

والنتيجة والتحقيق -إن شاء الله- الذي عليه المحققون كـ ابن تيمية وابن القيم، أنه ليس هناك مسافة للقصر في السفر، وليس هناك سفر له مسافة، بل كل ما سمي سفراً فاقصر فيه.

فإذا تعارف الناس في لغتهم أن هذا الخروج يسمى سفراً فاقصر فيه، أما إذا أنكروا من قلوبهم وأنكروا عليك أن هذا ليس بسفر فلا تقصر فيه، كأن تقول: سوف أسافر إلى الطائف فلا ينكر عليك أحد، أو إلى مكة، أو بيشة.

أما أن تقول: أسافر من هنا إلى السودة، أو الخميس، أو القرعاء فسوف ينكر عليك الناس، فليس بسفر.

فالخلاصة: أن ما سمي سفراً سواء طال أم قصر فهو سفر، قال ابن تيمية: وقصر صلى الله عليه وسلم إلى عرفة هو وأهل مكة، وعد ما بين مكة إلى عرفة مسافة سفر، فلما حج أهل مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قصروا، ولو كان ليس سفراً لكانوا أتموا بعده صلى الله عليه وسلم حينما سلّم، لكنهم قصروا فصلوا ركعتين، ولو كان عليه الصلاة والسلام يريد أن يتموا، لقال لهم: {أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر} كما قاله يوم الفتح لأهل مكة، يوم صلى بهم صلى الله عليه وسلم، وقال: {أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر} أي: مسافرون، وأما في منى ومزدلفة وفي عرفة فما قال لهم هذا صلى الله عليه وسلم، بل سكت عنهم، فعلم أن السفر لا يتحدد بطول المسافة، والذين حددوه بواحد وثمانين كيلو متر؛ ليس لهم برهان ولا دليل: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام: ة١٤٨] {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:١١١].

ومن حدده بالأيام فالأيام تختلف، كما يقول ابن تيمية، بعضهم يقطع مسافة يومين في يوم واحد، وبعضهم يقطع مسافة ثلاثة أيام في ساعات، إما لجواده المسرع، أو لأن مركوبه سريع، والآن الطائرة قد تقطع مسافة عشرة أيام، في ساعة واحدة، فكيف نحدد للناس بأمكنة وأزمنة ما أنزل الله بها من سلطان، ولا ذكرها الله عز وجل في كتابه، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وإنما الأقوال كلها مضطربة.

إذاً فكل ما سمي سفراً فاقصر فيه، فهذا في مسافة القصر.

وكان عليه الصلاة والسلام يقصر الرباعية ركعتين، إلا صلاة المغرب وصلاة الفجر؛ لأن الفجر مقرة على أصلها ركعتان، وصلاة المغرب وتر النهار فلا تقصر.

وكان عليه الصلاة والسلام إذا سافر سفراً قصر فيه، وليس هناك سفر سافر فيه صلى الله عليه وسلم فأتم فيه أبداً، ورواية الدارقطني التي تقول عائشة: {سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصر وأتممت، وأفطر وصمت} رواها الدارقطني وضعفها، وقال الإمام أحمد: هذا حديث كذب لا يثبت، وقال ابن تيمية: حديث باطل لا يصح أبداً.

فعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام ما سافر إلا وقصر.

والقصر أفضل في السفر، ولا يظن أحد من الناس أن هذا بالرأي، فيقول: كيف يكون أفضل أن أصلي ركعتين وأترك أربع ركعات؟ هذا الدين ليس بالرأي، يقول أبو الحسن علي رضي الله عنه وأرضاه: [[لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من أعلاه]] لأن باطن الخف يلامس الأرض والوساخات، والشارع الحكيم أمرنا أن نمسح على ظهر الخف، فهذا يخالف العقل؛ لأن العقل يقول: امسح على باطن الأقدام، أما ظاهرها فإنها نظيفة، قال: ليس الدين بالرأي إنما الدين بالنقل، ثم قال: {ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه}.

أما نوافله صلى الله عليه وسلم في السفر، فما كان يتنفل العشر الرواتب، بل كان يتركها وهو مسافر عليه الصلاة والسلام، وهذه العشر يقول عنها ابن عمر كما في الصحيحين: {حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات، ركعتين قبل الفجر، وركعتين قبل الظهر، وركعتين بعد الظهر، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء} وكان صلى الله عليه وسلم يترك هذه العشر، وهذا عين الحكمة؛ لأنه يصلي صلى الله عليه وسلم الظهر ركعتين فكيف يقوم يتنفل بعدها.

ولذلك قال بعض تلاميذ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: لماذا لا تتنفل؟ قال: لو كنت مسبحاً لأتممت، ولو كنت متنفلاً لأتممت الفريضة، فكيف أتنفل؟! لأن الله شرع هذه الرخصة للتيسير على الناس، فكيف تصلي ركعتين ثم تقوم تتنفل، فلا نافلة في السفر، إلا الوتر، فالوتر لم يتركه صلى الله عليه وسلم حضراً ولا سفراً أبداً، وإذا نام عنه من سفر أو مرض أو تعب، فإنه يصلي من النهار اثنتي عشرة ركعة.

لكن

السؤال

هل ترك صلى الله عليه وسلم الوتر مرة في عمره؟

الجواب

نعم.

ترك صلى الله عليه وسلم الوتر ليلة مزدلفة، يوم نام عليه الصلاة والسلام ليلة مزدلفة وصباح يوم منى يوم يرمي جمرة العقبة، في تلك الليلة ترك الوتر عليه الصلاة والسلام، وهو الظاهر من كلام أهل العلم، فإنه صلى العشاء ثم نام، وما قام عليه الصلاة والسلام حتى أذن لصلاة الفجر، حتى تلك الليلة ما قام يصلي فيها أبداً، وقد ذكر ابن القيم: أنه فعل ذلك ترويحاً على الناس، ويقول: من قامها فقد خالف السنة، ولا نقول: أنه خالف السنة لأنه يصلي في الليل، لكن إذا قام واعتقد أنها سنة أن يقوم في تلك الليلة فهو المخالف، أما من قامها ليتنفل فهو مأجور مشكور وأجره على الله.

لكن الرسول عليه الصلاة والسلام ترك الوتر في تلك الليلة، فما أوتر حتى أصبح، وبعد أن أصبح لم يوتر عليه الصلاة والسلام، فترك في عمره تلك الليلة.

إذاً فالوتر لا يترك في السفر، إلا في ليلة مزدلفة لمن تعب أو كلّ أو ملّ، ومن أوتر فلا عليه، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يوتر تلك الليلة.

فهذا هديه صلى الله عليه وسلم في السفر في الصلاة والوتر.

ويتساءل ابن تيمية من له ورد من الصلاة مثل صلاة الضحى في السفر، هل له أن يصليه؟ قال: نعم.

له أن يصلي ذلك، وهو مأجور وأجره على الله عز وجل، فإن كان له ورد واستطاع أن يحافظ عليه في السفر فليفعل، أما التي تركها صلى الله عليه وسلم فلا تفعلها أنت، بل تتركها كما تركها صلى الله عليه وسلم، فلك أن تصلي من الضحى ثمان ركعات أو ست أو أربع أو ركعتين، وليس عليك شيء وأنت مأجور في هذا.

<<  <  ج:
ص:  >  >>