للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حادثة الأفك]

ومصيبة الابتلاء في العرض قد حدثت، وفي تاريخ الإسلام كما في قصة الإفك، حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها، الذي رواه البخاري في غزوة المريسيع، وفي كتاب المنافقين عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس ومن طريق الزهري أيضاً: أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها حدثت فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج -ما أحسن القصة حين تسوقها عائشة - لغزاة -أي: لغزوة- أقرع بين نسائه، فأيهن خرج نصيبها أو سهمها خرج بها صلى الله عليه وسلم، فخرجتُ معه في ذات غزوة، فلما قفلنا من الغزوة راجعين، نزلت في منزل ألتمس عقداً لي من ظفار فاتني، فارتحل الركب وما شعروا، وظنوا أني في الهودج -وهو البيت الصغير الذي توضع فيه المرأة- فحمل الهودج على الجمل، وذهبوا وارتحلوا من المنزل، وظنوا أن أم المؤمنين الطاهرة بنت الطاهر، الصديقة بنت الصديق، المبرأة من فوق سبع سماوات أنها في الهودج، فذهبوا وأتت في وقت الظهيرة، فلم تجد أحداً، فماذا فعلت تغطت، وقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون!! {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:١٥٦] فجاء رجل من الصالحين المجاهدين الزاهدين الأخيار، اسمه صفوان بن المعطل، فوجدها متغطية، فقال: الله المستعان! زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة: فو الله ما كلمني بكلمة، ثم أناخ بعيره، فأركبها على البعير فركبت، وذهب يقود البعير بزمامه وعائشة على البعير، والرسول عليه الصلاة والسلام قد نزل هو والصحابة منزلاً في الطريق.

فأتى بالجمل وعليه عائشة فأما الذين آمنوا فزادهم ربهم إيماناً، وعلموا أنها طاهرة بريئة وأنها صديقة، وأما الذين في قلوبهم مرض فخار النفاق في قلوبهم، وعشعش الشك في نفوسهم، نعوذ بالله من ذلك، فقاموا يوشوشون بالأخبار: لماذا تأخرت؟ ولماذا أتى بها هذا الرجل؟ وما هو السبب؟ نفاق وكبر وعتو وإعراض عن الله وعن شرعه.

والرسول عليه الصلاة والسلام لم يدر، ولما وصل المدينة، قالت عائشة: فأتاني مرض، فأنكرت منه صلى الله عليه وسلم ذاك اللطف الذي كنت أجده قبل ذلك يوم أمرض، لأنه وصله الخبر صلى الله عليه وسلم، ومرضت وهي في بيته، فكان يمر عليها وهي مريضة ويقول: كيف تيكم؟ ما يزيد على هذه الكلمة، قالت: فكان هذا يريبني، أي: أشك فيه، لماذا لا أجد تلك الحفاوة وذاك الحنان، وتلك الشفقة التي كنت أجدها قبل ذلك، فاستأذنته صلى الله عليه وسلم أن أمرض في بيت أبوي فأذن لي.

فارتحلت رضي الله عنها وأرضاها بمرض، لكن لا تدري أنها أصيبت في عرضها، وهو أشرف ما يملكه الإنسان.

ولذلك فأنت تريد أن يدمر بيتك ولا تصاب في عرضك، وأن تنتهي حياتك ولا تثلم في شخصيتك، وأن يذهب عنك كل شيء من ذوات الدنيا، وأن يموت أبناؤك وزوجتك وأحبابك وأقرباؤك ولكن لا تصاب في هذا المعلم أعني عرضك.

ولذلك يقول سيد قطب رحمه الله: إن هذه الأيام أوقفت الرسول صلى الله عليه وسلم على أعصابه شهراً كاملاً، أصيب في عرضه، وفي رسالته، وشكك في مبادئه، ما أصبح عند المنافقين إلا في مقام التهمة، إنسان مصلح يريد تجديد أمر البشرية، والخروج بها من الظلام يصاب في عرضه صلى الله عليه وسلم وفي زوجته، كيف يثبت بعدها في الساحة، ويؤدي الرسالة ويعلم الناس، ويجاهد ويفتي، وهو متهم ومرتاب في عرضه عليه الصلاة والسلام، إنها مصيبة عظيمة.

والعجيب أن من أقدار الله أن الوحي لم ينزل في تلك الفترة حتى يربي الله الأمة، ويرى المؤمن من المنافق، والصادق من الكاذب، فلم ينزل الوحي شهراً كاملاً، فنزلت عائشة في بيت أبوها تمرض، وأتى عليه الصلاة والسلام لا يدري ماذا يتصرف، الوحي لم ينزل عليه، وجبريل ما فاوضه في هذه المسألة، سمع عليه الصلاة والسلام أن زوجته اتهمت في عرضها، وهو يعلم أنها صديقة خيرة، لكن ليست عنده براهين وإثباتات وحجج تنفي هذه التهمة والشائعة التي استبيحت في الناس، وفي أوساط المجتمع.

ذهبت عائشة رضي الله عنها ولم تدر، والنبي صلى الله عليه وسلم عاد إلى قريبه وابن عمه أبي الحسن أمير المؤمنين رضي الله عنه وأرضاه، الذي هو منه صلى الله عليه وسلم بمنزلة هارون من موسى، فقال: يا علي، ماذا ترى في أهلي؟ قال: النساء غيرها يا رسول الله كثير، كأنه يقول تزوج!! فذهب إلى أسامة فشاوره، فقال أسامة رضي الله عنه وأرضاه: يا رسول الله زوجك ما علمنا فيها إلا خيراً، فذهب صلى الله عليه وسلم إلى الجارية وشاورها، وقال لها: ماذا ترين؟ -التي كانت تخدم عائشة - فقالت: ما رأيتها إلا صائمة قائمة عابدة، إلا أنها كانت تنام فتأكل الداجن عجينها، يعني من غفلتها وبراءتها ولطفها، تأتي الشاة من طرف البيت فتأكل العجين الذي هو في الصحفة.

والرسول عليه الصلاة والسلام لَمْ يخرج إلى الآن بحل لهذه المشكلة المريبة، وتأتي عائشة فتخرج مع نساء فتخبرها امرأة أنها اتهمت، قالت: فسقطت على وجهي، وزاد مرضي مرضاً، وهمي هماً، والله ما اكتحلت بنوم، والله لقد بكيت حتى ظننت أن البكاء يخرق كبدي، أو يخالف بين أضلاعي، فدخل عليها صلى الله عليه وسلم وقال: {يا عائشة: إن كنت ألممت بذنب فتوبي إلى الله واستغفريه -إلى الآن لم يتأكد النبي عليه الصلاة والسلام أنها بريئة- وإن كنت بريئة فسيبرئك الله عز وجل} فقالت عائشة لأبيها: رد عني؟ فقال: والله ما أعلم ماذا أقول، فقالت: لأمها كلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لا أدري والله ماذا أقول، فجلست عائشة وقالت: والله ما مثلي ومثلكم إلا كما قال أبو يوسف -ونسيت اسمه من الهم والحزن واسمه يعقوب وهذا في الصحيح- {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:١٨] وما برح صلى الله عليه وسلم، أو ما برح من مكانه حتى أتاه الوحي، فنام واستيقظ فإذا هو يتلو تلك الآيات {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:١١] فبرأها الله عز وجل من فوق سبع سماوات، ورفع لها عظيم الدرجات، ومحا عنها كثيراً من السيئات؛ لأنها صبرت في عرضها واحتسبت عند الله.

وجلد صلى الله عليه وسلم بعض الذين ذهبوا بهذه الشائعة، نسأل الله السلامة والعافية.

<<  <  ج:
ص:  >  >>