للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[معنى الاجتواء]

أي لم تناسبهم المدينة وكرهوا جوها وبغضوا الحياة فيها؛ لأنها موبوءة ولذلك دعا لها صلى الله عليه وسلم بالبركة, وسأل الله أن ينقل حماها إلى الجحفة كما جاء عند البخاري , قال: {اللهم إن إبراهيم دعا لـ مكة في صاعها ومدها بالبركة، فإني أدعوك أن تبارك في المدينة , اللهم انقل حمى المدينة إلى الجحفة} فنقلت حمى المدينة , لكن كأنه قدم الطفيل قبل أن تنقل الحمى, ولذلك لما قدم الصحابة المدينة وكانوا في جبال مكة , وهي وارفة وجيدة بالنسبة للجزيرة العربية , ماؤها طيب ووادي نعمان فيها، وفيها أرض لا بأس بها، لكن المدينة حارة، قاحلة، ذات حجار سود, فلما قدموا فيها استوخموها, حتى تقول عائشة في كتاب الطب في صحيح البخاري تقول: [[لما قدمنا المدينة مرض أبي، وعامر بن فهيرة وبلال بن رباح , فمررت على أبي فقلت: يا أبي كيف تجدك؟ قال:

كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله

أبو بكر الحمى تهزه, والحمى تؤثر على المزاج حتى ينشد الإنسان أناشيد ولو لم يستطع أن ينشد, يلقي قصائد ومحاضرات, ومن الحسن أن الحمى تجعل الإنسان يتحفظ محفوظات، ويعيد جدول الضرب، وينشد ويلقي إلقاء عجيباً لأنها حمى, ولذلك العرب تكره الحمى, ويقولون: إن الحمى لا تترك مفصلاً من ثلاثمائة مفصل إلا تدخل فيه, وهي المكفرة للذنوب, حتى يقول أحد الأعراب:

زارت مكفرة الذنوب فقلت لها ألا ترجعين

يقول ابن القيم: ألا تقلعي.

وفد المتنبي على كافور في مصر وكافور هذا إخشيدي يلعب على حبلين, يقوم الليل وفي الصباح تقوم الجواري يغنين على رأسه, يقرأ المصحف وبعده يرقص مع الجواري, ولذلك لم يعرف له اتجاه، فوصله المتنبي يريد أن يأخذ إمارة, - المتنبي عنده طموح في الدنيا ولكن لا كَسَب الدنيا ولا الدين، نسأل الله العافية, لكنه شاعر العربية - فلما وصل مرض عند كافور , فيقول في قصيدة الحمى، وهي من أحسن القصائد:

ملومكما يجل عن الملام ووقع فعاله فوق الكلام

وزائرتي كأن بها حياءً فليس تزور إلا في الظلام

يقول: الحمى هذه كأنها تخجل مني, ما تأتيني إلا بعد صلاة العشاء, بعدما يتعشى ويشرب الشاي تأتيه الحمى بحفظ الله ورعايته.

بذلت لها المطارف والحشايا فعافتها وباتت في عظامي

أبنت الدهر عندي كل بنت فكيف نجوت أنت من الزحام

يقول: عندي كل مصيبة في الدنيا وكلما وقعت على رأسي, وحتى أنت تزاحمين مع المصائب لتدخلي في عظامي, فالعرب تتشاءم من الحمى- قالت عائشة كما في البخاري -: فمررت على بلال قلت يا بلال: كيف تجدك؟ قال:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل

وهي من أحسن قصائد العرب وهي للهذلي أوردها صاحب الأغاني وغيره وابن قتيبة , يقول:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل

وهل أردن يوما مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل

شامة: جبل في مكة , وطفيل: جبل, والإذخر: شجر, وجليل: قيل: شجر، وقيل: جبل, والحمد لله سواء كان شجراً أم جبلاً لا يوجب الخلاف بين أهل السنة والجماعة لأن بعض العلماء إذا لم يعرف اسم شجرة في كتاب قال: شجرة تنبت في الهند لأنه يدري أنك لن تسافر إلى الهند فأحالك إلى معدوم, ومن أحالك على معدوم فما أنصفك.

قال: فاجتوينا المدينة والاجتواء أي: عدم الموافقة، فالرسول صلى الله عليه وسلم دعا الله أن ينقل الحمى من المدينة، ولذلك وفد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وفد من عكل وعرينة, سبعة وقيل: ثمانية -وهذه رواية سلمة بن الأكوع في البخاري - أتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأكراشهم قد كبرت من السقم, ومن الهرم ومن الإعياء, بطونهم منتفخة كبيرة ولكن أعضاؤهم صغيرة, فنظر إليهم صلى الله عليه وسلم وإذا هم صفر الوجوه، ضمروا من التعب والإعياء, فأراد أن يعالجهم صلى الله عليه وسلم وأن يداويهم وانظر إلى حسن الخلق، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:١٥٩] فأتى صلى الله عليه وسلم فقال: {اذهبوا إلى إبلي في الغابة فاشربوا من أبوالها وألبانها} وبول الإبل: طاهر, قال البخاري في صحيحه: باب طهارة أبوال الإبل، وأتى به في باب الوضوء, وبعض الناس إذا وقع عليه شيء رش من أبوال ما يؤكل لحمه, غسلوه وظنوا أنه تنجس ولم يتنجس, بل بول ما يؤكل لحمه طاهر- فذهب هؤلاء فشربوا من أبوالها، ثم شربوا من ألبانها فاصطحوا, فلما اصطحوا، ماذا كان الجزاء؟

أتوا إلى خادم الرسول صلى الله عليه وسلم راعي الإبل فقتلوه, ثم جدعوا أنفه, ثم قطعوا أذنيه, ثم قطعوا يديه وكفروا بالله العظيم, ثم استاقوا الإبل وخرجوا, قال سلمة بن الأكوع: فخرجت قبل صلاة الفجر بفرس لـ طلحة بن عبيد الله أريد أن أوصله الغابة فلقيني رجل من الخدم فقلت: ما لك؟ قال: خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل، ومثل به، واستيقت إبل الرسول صلى الله عليه وسلم, قال: فأشرفت على جبل من جبال المدينة فصوَّتُ بصوتي حتى أسمعت ما بين لابتي المدينة -هذا إعلان طارئ، واستنفار عام من سلمة وكان من أقوى الناس صوتاً، ومن أسرع الناس، وربما يكون فيمن ذكر في السير- فسمع الرسول صلى الله عليه وسلم الصوت قبل صلاة الفجر, فصلّى عليه الصلاة والسلام بالناس الفجر -لكن سلمة ما ترك هؤلاء بل خرج بعدهم- قال: فخرجت وراءهم حتى أدركني الضحى وأنا وراءهم، فإذا بهم بإبل الرسول صلى الله عليه وسلم يسوقونها إلى غطفان في نجد , فأخذت أرجمهم بالحصى وكنت من أسرع الناس, فإذا عادوا إليّ وبعضهم خيال أفر حتى أعتصم بالجبل, فإذا ذهبوا رميتهم بالحجارة وأريد تعطيلهم حتى يدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: حتى تحاجزنا مع الظهيرة يريدون الماء، وأبيت أن يشربوا من الماء، فيقول أحدهم: كم لقينا من هذا؟ وهو ينشد ويرتجز يقول:

إني أنا ابن الأكوع اليوم يوم الرضع

قال: ولما أتى الظهيرة وإذا بغبار قد انعقد على رأسي وعلى رءوسهم، فإذا هي كتيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقائدها كرز بن عبد الرحمن -البطل المجاهد الشاب, أعطاه صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة خيال من الصحابة، ومن شجعانهم فطوقوهم ثم أتوا بهم، فلما استدعاهم صلى الله عليه وسلم إلى المدينة , أجلسهم في الحرة , ثم سمل أعينهم، وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف, ثم تركهم حتى يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا, وهذا جزاء من كفر بالله، وحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم, هذا من الاجتواء.

اجتوى: هذه الكلمة لا بد من معرفتها قليلاً، ولو أنها قد وضحت إن شاء الله, فمعنى اجتويت الشيء: ما ناسبني, يقول أبو شريح وقيل: أبو سحيم الرياحي وهي من أحسن القصائد عند العرب:

أفاطم قبل بينك متعيني وإن لم تفعليه كأن تبيني

فإما أن تكون أخي بصدق فأعرف منك غثي من سميني

يقول: أريد أن تكون واضحاً، لا تكون مجاملاً ومنافقاً معي

وإلا فاطرحني واتخذني عدواً أتقيك وتتقيني

فإني لو تخالفني شمالي ببغض ما وصلت بها يميني

إذاً لقطعتها لقلت بيني كذلك أجتوي من يجتويني

أي: أبغض من يبغضني.

قال: (ثم قطع براجمه) وهي السلامى على الصحيح كما قال النووي: هي المفاصل, كم يكون في الأصابع أو في الكف الواحدة من سلامي!

يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: {على كل سلامى من الناس صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس؛ تعدل بين اثنين صدقه} أو كما قال صلى الله عليه وسلم, فالتسبيحة صدقة، والتهليلة صدقة، والتحميدة صدقة, وأمر بمعروف صدقة, ونهي عن منكر صدقة, ويجزي عن ذلك ركعتان يركعهما أحدكم من الضحى, أي: أنك إذا صليت في الضحى ركعتين اثنتين، خفيفتين قصيرتين، كتب الله لك الأجر ثلاثمائة وستين حسنة، بعدد هذه المفاصل, وهذا فضل من الله عظيم, والبراجم هذه هي التي في رءوس الأصابع التي يجتمع عليها الأوساخ, وفي رواية صحيحة: {وغسل البراجم} عشر خصال من الفطرة، وذكر صلى الله عليه وسلم فيها غسل البراجم, لأن الجاهليين لم يكونوا يغسلون هذه البراجم, فمن السنة غسلها عند الوضوء أو عند غير الوضوء حتى يكون الإنسان طاهراً نقياً.

<<  <  ج:
ص:  >  >>