للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[مسائل في الخطابة]

ولكني أحبذ أن أبين مسائل حفظكم الله.

قلة الدربة في طلبة العلم، وقد كان عليه الصلاة السلام يرسل أصحابه خطباء ومنذرين، وكان صلى الله عليه وسلم بنفسه يقيم الواحد منهم خطيباً على المنبر كما أقام ثابت بن قيس بن شماس يخطب في وفد بني تميم، وأقام حسان شاعراً، وأرسل هذا داعية، وهذا مفتياً، فكان عليه الصلاة والسلام بنفسه يعلمهم ويربيهم كيف يقابلون الناس، وإن أعظم ما يمكن أن يتحصن به المتكلم أو المقابل للناس هي التجربة، كما يذكر ذلك مثل الشيخ محمد أبو زهرة في كتاب الخطابة، أعرف شاباً ولا بأس من ذكره تشجيعاً له حفظه الله هو الأخ محمد بن سليمان بن فايع، شاب يقابل الناس ويتكلم بجرأة وبحذاقة وبنباهة، فأسأل الله عز وجل أن يثيبه ويثبته هو وإخوانه.

والإخوة لم يقصروا وإن حصل تقصير فمني، ويعلم الله أنني شكلت معهم كثيراً من الكلمات ولكن ما ضبطت لأسباب:

لمقابلة الجمهور خاصة وأن معنا القضاة والعلماء، والدكاترة والأساتذة، والصالحون والأخيار، ومقابلة الجمع ليس بالأمر السهل حتى تمنى بعض الخطباء أن يقابل السيوف ولا يقابل الصفوف، وقيل لـ عبد الملك بن مروان: [[نراك شبت، قال: من صعود المنابر كل جمعة أعرض عقلي على الناس]] وكان يوصي أبناءه وكان خليفة: [[إذا صعدتم المنابر فارموا آخر الناس بأبصاركم]] لأن الموقف صعب، وتولى عثمان رضي الله عنه الخلافة فصعد المنبر فأراد أن يتحدث فاضطرب واهتز وارتجى عليه؛ لأن عثمان كان حيياً تستحي منه الملائكة، وكان أمامه بقية العشرة، وأهل بيعة الرضوان، وأهل بدر وأحد، فلم يستطع أن يتكلم، فنزل من على المنبر يرتعد، ثم قال كلمة هي من أحسن الكلمات في التاريخ: [[إنكم في حاجة إلى إمام عادل خير من خطيب فصيح]].

والموقف صعب، ولكن من مآسينا وتقصيرنا أن يوجد في مجتمعاتنا خطيب يورد على الناس الموضوعات، وخريجو الجامعات يستمعون له في كل جمعة وهو يردد عليهم حديث علقمة وحديث ثعلبة ولا أصل لها عند المسلمين، لا يروي إلا موضوعات ولا يحفظ حديثاً في صحيح البخاري ولا في صحيح مسلم، ومن المآسي أن خطيباً يظن أنا لا زلنا نعيش في عهد السلطان عبد الحميد فيدعو له في آخر الخطبة: اللهم انصر السلطان عبد الحميد وأعوانه وأجناده، وخطيب لا يعرف إلا الخطبة المخضوبة القديمة التي حفظها جماعته وقبيلته فينامون قبل أن يدخل ولا يستفيقون إلا مع الإقامة، وربما يرددون عليه مما سمعوا ومما شربوا ومما أكلوا، خطيب لا يقيم من القرآن ولو حرفاً واحداً فينكس كلام الله، ولعلكم تسمعون في بعض الحروف أنه ينطق حرف القاف في القرآن بغير الفصحى فينطقها بالعامية مشابهة لجيم المصرية هذا لأن مخارج الحروف عندنا سقيمة، أمة غُزِّيت في لغتها وعقولها وفي كرامتها وأدبها ومجدها فلم تعد أمة تستطيع أن تتكلم للناس.

وخطيب يطول على الناس حتى يتضجرون منه، ويخرج بهم عن موضوعه، بل سمعت أن بعض الخطباء يقف في الناس ساعة كاملة، وهم يملون منه ولو كان خمس دقائق، ولكن كما يقول أحدهم في عهد بني العباس وقد صلى وراء خطيب ثقيل الدم فطول به كثيراً فقال:

صلاة ولا عبد العزيز إمامها وحد ولا عبد العزيز إمامه

أو كما قال ما ولم أضبط البيت، لكن يقول: أصلي وراء كل إمام!! إلا وراء هذا الإمام، أتوب إلى الله أن أجلس معه في خطبة! خطيب يتبهذل بالسعال والنحنحة وبالزكام على المنبر، فتأخذ هذه المسائل وهذه الوقفات والمطبات نصف الخطبة، فيسعل كثيراً ويتنحنح وليس به سعال ولا نحنحة ويحك رأسه ولحيته، ويصلح بشته وغترته حتى يمل الناس ويتضجروا، وخطيب ينوم الناس وليس بهم نعاس، لكن هو بأسلوبه يتعتع كالسيارة وهي تصعد إذا كان موديلها قديماً، فتجده ينحت الكلمة: قال: قال رسول الله رسول الله رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم، فلا يخرج الكلمة حتى تخرج قلوب الناس.

يا خلي البالِ قد بَلْبَلَتَ بالبَلبَالِ بَالِي بالنوى زلزلتني والعقل زالي

فبعض الناس يبلبل بالك ويزلزل قلبك.

قيل للشافعي: من هم غشاوة حُمَّى الرِّبْعِ؟ قال: الثُّقَلاء.

وقال الأعمش المقصود بقوله تعالى: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:١٢] قال: الثُّقَلاء نعوذ بالله من الثقلاء، وخطيب لا يعرف أحوال الناس، ولا موضوعاتهم فيدخل في قرية ليتكلم لهم هل الأرض كروية الشكل؟ وهل الأرض تدور حول الشمس؟ أو الشمس تدور حول الأرض؟ وقلوبهم أصلاً تدور حول الشرك، وهو لا يقيمهم على منهج التوحيد ليدورهم حول رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وخطيب يذهب إلى البادية ليتكلم لهم عن مشكلة الخدم والخادمات وهم لم يسمعوا في حياتهم بخادم ولا خدم، هذه من المآسي التي نعيشها وكثير كثير هي.

خطيب في الثمانين من عمره كأنه أوتي وصاية ألا يترك المنبر لشباب محمد صلى الله عليه وسلم خريجي الشريعة وأصول الدين والكليات العلمية الذين بكت القلوب من وعظهم ولكن يأبى هذا، صمد على المنبر وأخذه وحجبه ورفض أن يتركه حتى آخر قطرة من دمه حتى يقتل، هذه بعض المعالم وسوف أتحدث عن أدب الخطابة، وأصول الخطابة في الإسلام إن شاء الله، وبعض نكات الخطباء عبر التاريخ التي ذكرها ابن الجوزي في بعض كتبه وذكرها غيره كـ السيوطي.

<<  <  ج:
ص:  >  >>