للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[دور المسجد في تخريج الأجيال]

والرسول عليه الصلاة والسلام جعل المسجد جامعة كبرى، يُخَرِّج منها الأجيال:

أسمعتم أعلم من ابن عباس في التفسير، ما هي شهادتُه التي نالها؟

لا شيء، فلا ورق، فالأوراق تنتهي ويبقى العلم النافع، وقد نال رضي الله عنه وأرضاه شهادة تبقى أبد الآبدين، وهي دعوته عليه الصلاة والسلام، يقول له: {اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل} وهذا حديثٌ في الصحيحين.

فـ ابن عباس تخرَّج من المسجد، تعلم علماً جماً، حتى إن ابن تيمية يقول: أما ابن عباس فعلمه علم جم: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:٢١].

كان يَدْلِفُ بالعلم كالبحر، أرأيتَ البحرَ إذا دَلَفَ؟

أرأيت الأمواج إذا تكسر بعضها على بعض؟

فهذا مثل علم ابن عباس.

يقول مجاهد وأبو وائل، تلميذاه: [[وقف ابن عباس يوم عرفة بعد صلاة الظهر، فأخذ يشرح ويفسر سورة البقرة، آية آية، حتى غربت الشمس، والله ما تلعثم، ولا توقف، ولا تنحنح، ولا سعل، والله لو سمعه اليهود والنصارى لأسلموا عن بكرة أبيهم]].

بالله لفظك هذا سال من عسل أم قد صببت على أفواهنا العسلا

أمَّا المعاني اللواتي قد أتيت بها أرى بها الدر والياقوت متصلا

فهي جامعة المسجد التي أنشأها صلى الله عليه وسلم، وابن عباس يدخل إلى هذا المسجد ليتعلم علماًَ نافعاً.

يقول أحد تلاميذه: [[رأيتُ ابن عباس من بعد صلاة العشاء إلى صلاة الفجر، يردد آية واحدة، ويبكي حتى الصباح، وهي قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:١٢٣]]].

دخل عثمان إلى المسجد ليجدد إيمانه في المسجد.

قال المَرْوَزي بسند جيد، وقال ابن حجر في الفتح، في كتاب الوتر: سنده صحيح: ثبت أن عثمان دخل المسجد، فقرأ القرآن في ركعة واحدة من أوله إلى آخره، من بعد صلاة العشاء إلى صلاة الفجر.

فهؤلاء جيل محمد عليه الصلاة والسلام: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:٩٠].

فمن المسجد تخرج ابن عباس، وتخرج عثمان.

من هو أقضى القضاة؟

هو علي بن أبي طالب.

ورَدَ في حديث يقبل التحسين عند الذهبي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {أقضاكم علي} علي بن أبي طالب، صاحب الكلمة الحية، والأدب الراقي.

يقول الأستاذ محمد أبو زهرة: لم يوجد بعد الرسول عليه الصلاة والسلام أبلغ من علي بن أبي طالب.

علي بن أبي طالب رجل الكلمة، حتى إن ابن كثير يقول: باب في كلماته الحاصلة، التي هي إلى القلوب واصلة.

سئل علي بن أبي طالب: [[كم بين العرش والأرض؟ قال: دعوة مستجابة]].

قالوا: [[كم بين الشرق والغرب؟ قال: مسيرة الشمس يوماً]].

كلامه يصل إلى القلوب، وأنا لستُ في معرض كلامه؛ لكن ربما كانت فوائد هذا الاستطراد أعظم من التأصيل العلمي في المحاضرة.

في صحيح البخاري يقول علي: [[يا أيها الناس! إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل]].

يقول علي وهو يمسك بلحيته ويبكي: [[يا دنيا يا دنية! طلقتك ثلاثاً، عمرك قصير، وزادك حقير، وسفرك طويل، آهٍ من وحشة الزاد وبعد السفر ولقاء الموت]].

تخرج علي بن أبي طالب من المسجد، وما درس في جامعة، ولا استقل بمدرسة، وليس له شيخ إلا محمد عليه الصلاة والسلام؛ ولكن سنده إلى محمد صلى الله عليه وسلم إلى جبريل، إلى رب العالمين.

يقول أبو تمام:

سندٌ كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا

أيْ والله، هذا هو العلم النافع.

ومن المسجد أتى زيد بن ثابت الفَرَضِي، الذي قال عليه الصلاة والسلام: {أفرضكم زيد} فهو أعلم الناس بالفرائض.

ومن عجب إهداء تمر لـ خيبر وتعليم زيد بعض علم الفرائضِ

فمن المسجد تعلم.

ومن المسجد تخرج حسان، الأديب الشاعر المُفَلق، الذي علمه صلى الله عليه وسلم كيف يهجو المشركين، ودعا له بالتأييد من الله رب العالمين، وقرب له المنبر، وقال له: {اهجهم وروح القُدُس معك}.

حسانُ ظَنَّ مَرَّةً أن الإسلام يعارض الشعر لَمَّا أنزل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى قوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:٢٢٤ - ٢٢٦] فأتى هو وكعب بن مالك وابن رواحة وتباكوا عند الرسول عليه الصلاة والسلام، فأنزل الله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:٢٢٧] فاستثنى المؤمنين الذين يعملون الصالحات، ويذكرون الله كثيراً، وينتصرون من الظالمين.

لا بد للمسلمين من شاعر، تنطلق ثقافته من المسجد، ولا بد لهم من قصصي، وصحفي، ومن ناثر ومن أديب، من خطيب؛ لكن ثقافته من المسجد.

فنحن أمة أهل التخصصات، ولا نعلن عجزنا في الساحة، ونقول: نحن للفتيا فقط، ونحن لمسائل الحلال والحرام، لا، مع ذلك نعلن أن في ديننا التكامل، وأننا نستطيع أن نغطي كل واجهة، ونسد كل ثغرة.

فمن المسجد أخرج صلى الله عليه وسلم الخطباء والأدباء، كـ حسان وابن رواحة وكعب بن مالك، وثابت بن قيس بن شماس.

<<  <  ج:
ص:  >  >>