للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الاعتزاز بالعلم]

ذكر الذهبي في التذكرة عن أبي زرعة، أنه لما توفي رؤي في المنام، ونحن لا نعلق بالمنامات أحكاماً ولا شعائر، ولا ننساها ونتركها، لكننا نقف منها موقف الأثر، نقول: هي مبشرات، يقول: رؤي في المنام فقيل: ما فعل الله بك؟ قال: رفعني في عليين، قالوا بماذا؟ قال: لأنني كتبت ألف ألف مرة صلى الله عليه وسلم، مليون حديث وهو يكتب عند كل حديث "صلى الله عليه وسلم" فالعلماء والسلف الصالح دأبوا في طلب العلم.

يقول ابن عباس رضي الله عنهما: [[والله الذي لا إله إلا هو! لقد كنت أخرج في طلب العلم في القائلة فألتمس العلم عند الأنصار فأجدهم قائلين، فأطرح نفسي عند باب أحدهم في الشمس والريح تسفي عليّ من التراب، حتى يخرج عليّ الأنصاري فأسأله الحديث، فينفعني الله عز وجل، فيقول الأنصاري: يابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم! ألا أيقظتني لآتيك، قلت: لا.

إني أتيت في ساعة لايوقظ فيها الناس]] ولذلك لما جلس ابن عباس للتعليم، قال: [[ذللت طالباً فعززت مطلوباً]] يقول: لما أذللت نفسي لطلب العلم، عززت فيما بعد يوم أتى الناس يطلبون العلم مني.

وأتى زيد بن ثابت ذلك الرجل الفرضي الكبير، الذي جعله صلى الله وعليه وسلم في تخصص الفرائض وفي قسم الفرائض ليجيد التخصص، لأن الصحابة كانوا واجهات، كل أقام نفسه في منفذ من المنافذ، أو في باب من الأبواب، فـ خالد: مهمته ضرب أعناق الملاحدة والزاندقة وأعداء الله، مهمته أن يفصل الرءوس عن الأكتاف، كل من لا يؤمن بالله يقطع رأسه، وزيد بن ثابت: مهمته إذا قطعت الرءوس أن يقسم الأنصبة على الورثة، وأما ابن عباس: فمهمته أن يستنبط من الآيات، فيسكب من رحيقها ما يقدمه للأمة، أما أبو بكر فهو رجل الإدارة، ورجل موقف الساعة، وعمر رضي الله عنه: يترك حصناً حصيناً لكل ضائقة تضيق بالإسلام.

قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها

وأما عثمان فيبقى للبذل والسخاء ولإعطاء الأموال في سبيل الله، وأما علي فهو أستاذ الكلمة الحارة الصادقة التي يربي بها الأجيال، ولذلك يقول ابن كثير عنه: "باب في كلماته الحاصلة، التي هي إلى القلوب واصلة".

وأما حسان: فإن شئت فسمِّه وزارة الإعلام المتنقلة، يدخل الجنة بالقافية والأدب، لأنه نصر الإسلام من هنا، فمن كان منكم كاتباً فليتق الله في كتاباته، وليدخل بها الجنة ولا يدخل بها النار، ومن كان منكم أديباً فليتق الله في أدبه، فلا يكبه الله بأدبه في نار جهنم، ومن كان منكم شاعراً فليحاول أن يدخل الجنة بشعره، فإن للجنة أبواباً ثمانية، وحسان يقود موكباً من الشعراء يوم القيامة، ومن كان خطيباً فليأخذ باب الخطابة وليتق الله ليدخل به الجنة: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:٦٠] {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً} [الرعد:١٧].

إذا علم ذلك فقد كان الصحابة يجهدون أنفسهم في طلب العلم، والشاهد زيد بن ثابت: أتى ليركب راحلته، فاقترب ابن عباس ليمسك بدابته، فقال زيد بن ثابت: دع هذا يابن عم الرسول عليه الصلاة والسلام! فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا، فقال زيد: أعطني يدك، فأخذها فقبلها، فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بقرابة رسولنا عليه الصلاة والسلام.

هؤلاء الجيل أنفقوا ذخائر أنفسهم في طلب العلم، يذهب أحدهم الليالي الطويلة ليحصل العلم، فماذا كان تحصيلهم؟

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: لما دخل أبو زرعة بغداد وقف أبي معه يسائله، فترك أبي النوافل ليأخذ ما عند أبي زرعة من أحاديث، لأن الأحاديث التي عند أبي زرعة تفوت، وأما النوافل فإنها لا تفوت فلها وقت آخر.

وتواقف ابن المبارك وعالم آخر من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر يطلبون العلم ويتسائلون حتى أًذن للفجر، وقال عطاء بن أبي رباح رضي الله عنه وأرضاه: [[العلم والذكر: هي كيف تصلي، كيف تصوم، كيف تزكي، كيف تحج، كيف تطلق]] أو شبيهاً بهذا الكلام، هذه مجالس الذكر.

يقول ابن تيمية في المجلد العاشر من فتاويه: "واعلم أن طلب العلم وتحصيل العلم من أفضل الذكر، بل هو الذكر" وطلب العلم هو الذكر، وهو النفع وهو الحياة، فكان علم الصحابة وعلم السلف علماً موصولاً بالله عز وجل، تعرف أنه طالب حديث وطالب علم بالسمات التي عليه، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {نضَّر الله امرأً سمع مقالة فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع}.

وفي رواية ابن حبان: {رحم الله امرأ سمع مني مقالتي} الحديث، والنضرة موجودة على وجوه طلبة العلم كلما زادوا من التحصيل، وكلما أكثروا من حفظ الأحاديث، وكلما زاولوا هذا الفن رزقهم الله بهاءً ونوراً على وجوههم، لأنهم أخذوا ميراث الرسول عليه الصلاة والسلام.

<<  <  ج:
ص:  >  >>