للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الأريحية الفياضة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم]

ويقول عليه الصلاة والسلام: {لو دُعيت إلى كراع لأجبتُ، ولو أهدي إلي ذراع لقبلتُ}.

صلى الله عليك وسلم ما أعظمك! وما أجلك! كلما تواضعت شرُفت ونبُلت وعظُمت في العيون.

نعم، لا يستنكف عليه الصلاة والسلام أن يجيب الدعوة، يذهب مع أصحابه، يسمع بالأعرابي يمرض فيزوره، وبالعجوز تصيبها الحمى فيزورها، وبالطفل يدهدهه فيمازحه، وبالأعرابي يوقفه فيقف معه، وبالمرأة تسأله فيحيي ويسهل ويَحْلَم عليه الصلاة والسلام.

تأخذه الجارية بيدها من منزله، وكأنه ليس مشغولاً بالعالم، وأحداث الأرض ومشاغل الدنيا تدار على كفه، فيخرج مع الجارية، ويذهب معها، وتريه صلى الله عليه وسلم حدثاً بسيطاً.

يزور طفلاً في المدينة، مات طائر له فيريد عليه الصلاة والسلام من هذه الزيارة أن يربي للعالم معالم الحضارة التربوية بجانب الطفل.

ويذهب إلى الطفل، ويقول: {يا أبا عمير، ما فعل النغير؟}.

أي عظمة هذه؟

مرت به عجوز، وظنت أنها سوف ترى إنساناً في هالة، يحوطه الحرس، ويحميه الجنود، وتصفُّ المواكب بين يديه وخلفه، فرأت الإنسان الوقور الهادئ الحليم الكريم يجلس على التراب.

تجلس على التراب وأنت من قدت القلوب إلى الواحد الوهاب؟!

تجلس على التراب وأنت من سافرت بالأرواح إلى الفتاح العلام؟!

تجلس على التراب وأنت دكدكت دولة البغي، دولة كسرى وقيصر، وأعلنت حقوق الإنسان, ورفعت علم (لا إله إلا الله) في سمرقند وطشقند، وفي أسبانيا، وعلى مشارف نهر اللوار؟!

تجلس على التراب وأنت قدمت للعالم ألف عظيم وعظيم، وألف شاعر وشاعر، وألف عالم وعالم، وألف مؤرخ ومؤرخ؟!

تجلس على التراب وأنت بنيت صروح العدالة، وبنيت مساجد الإسلام في كل البقاع، وذُبِح أصحابُك على مشارف دجلة والفرات والنيل؛ لتبقى (لا إله إلا الله)؟!

فلما رأته هذه العجوز، قالت: {انظروا إليه يجلس كما يجلس العبد، ويأكل كما يأكل العبد، فيقول: نعم! وهل هناك أعبد مني؟}.

انظر إلى الرد الجميل، وإلى الأريحية الفياضة، وإلى الخلق الفذ، إنها عظمة والله، كلما بحثت عن جوانبها دهشت إن كنت مسلماً، دخل حبه في قلبك وأثارت في نفسك معانٍ جياشة، وخواطر حارة، لا تحدثها أي ملحمة وملحمة.

عجيب!!

إنه عظيم في كل النواحي، وإن الذي لا يطرق قلبه حب هذا الرجل العظيم عليه الصلاة والسلام سوف يبقى ميتاً.

يقول: {وهل هناك أعبد مني؟} عبدٌ؟! {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:١] {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:١] {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن:١٩].

ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيَّرت أحمد لي نبيا

<<  <  ج:
ص:  >  >>