للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من روائع الشعر العربي]

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أيها الإخوة الفضلاء:

سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

عنوان هذا الدرس: (قل أعوذ برب الناس) وهو الدرس الأول في التفسير، والخطة المتبعة في تفسير القرآن الكريم: أن يُبْدأ بقصار السور، وفي هذا الدرس نبدأ بـ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:١] ثم السور التي تليها صعوداً، في زحف مقدس مع كتاب الله عز وجل.

والمقصود من هذا التفسير: أن يقرب كلام الله عز وجل للناس.

وأسلك في ذلك مستعيناً بالله الأسلوب السهل اليسير المبسط، محتفظاً بكلام أهل السنة والجماعة، حريصاً على معتقد السلف الصالح، رابطاً القرآن بالواقع، والواقع بالقرآن، سائلاً الله أن يعينني وإياكم على أن نهتدي بنور القرآن.

وقبل أن أبدأ في الدرس بـ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:١] أحب أن أتحفكم، وأتحف من يسمع هذا الدرس بقصيدة بديعة قالها كثير عزة أمام أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه.

وأنتم تعرفون عمر بن عبد العزيز، ولا يجهله مسلم، والكل يعرف من هو الخليفة الراشد الزاهد العابد، الذي كان مجدداً في القرن الأول.

والحقيقة: أن الشاعر أبدع، وأنه قال الحق، وأنه أصاب سواء السبيل، لما تلفظ بكلمات يشيد بهذا الإمام - رحمه الله رحمة واسعة -.

يقول كثير عزة يمدح عمر بن عبد العزيز ويثني عليه:

تكلمتَ بالحق المبين وإنما تُبَيَّنُ آياتُ الهدى بالتكلُّمِ

وأظهرت نور الحق فاشتد نوره على كل لبس فارق الحق مظلمِ

وعاقبت فيما قد تقدمتَ قبله وأعرضتَ عما كان قبل التقدمِ

ويخاطب الخليفة ويقول:

وليت فلم تَشْتُم علياً ولم تُخِفْ برياً ولم تقبل إشارة مجرمِ

لأن النواصب من بني أمية كانوا يشتمون علياً على المنابر ويسبونه، فلما تولى عمر أبطل ذلك، وأعاض مكان ذلك: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:٩٠].

وصَدَّقتَ بالفعل المقال مع الذي أتيتَ فأمسى راضياً كل مسلمِ

ألا إنما يكفي الفتى بعد زيغه من الأَوَد الباقي ثِقاف المقوِّمِ

وقد لَبِسَتْ لبس الهَلوك ثيابها تراءى لك الدنيا بكف ومعصمِ

وتومض أحياناً بعين مريضة وتَبْسُم عن مثل الجُمَان المُنَظَّمِ

وتومض، أي: الدنيا.

فأعرضتَ عنها مشمئزاً كأنها سَقَتْكَ مَدُوفاً من سَمَام وعلقمِ

وقد كنتَ من أجبالها في مُمَنَّعٍ ومن بحرها في مزبد الموج مفعمِ

وما زلتَ تواقاً إلى كل غايةٍ بلغتَ بها أعلى البناء المقدَّمِ

فلما أتاك المُلْكُ عفواً ولم يكن لطالب دنيا بعده من تَكَلُّمِ

تركتَ الذي يفنى وإن كان مُونقاً وآثرتَ ما يبقى برأيٍ مصَمِّمِ

وأضررت بالفاني وشمرت للذي أمامك في يوم من الشر مظلمِ

سما لك همٌّ في الفؤاد مؤرِّقٌ بلغت به أعلى المعالي بسُلَّمِ

فما بين شرق الأرض والغرب كلها منادٍ ينادي من فصيح وأعجمِ

يقول أمير المؤمنين ظلمتَني بأخذٍ لدينار ولا أخذِ درهمِِ

ولا بسطِ كفٍ لامرئ غير مجرمٍ ولا السفك منه ظالماً ملء مِحْجَمِ

ولو يستطيع المسلمون لقسموا لك الشطر من أعمارهم غير نُدَّمِ

فأَرْبِحْ بها من صفقةِ لمبايِعٍ! وأَعْظِمْ بها أَعْظِمْ بها ثم أَعْظِمِ!

ولعله إن شاء الله يكون في مقدمة كل درس رائعة من الشعر العربي الفصيح، أو بديعة ينفع الله بها؛ ولكن نأتي إلى أحسن الكلام، وأروع الألفاظ، وجوهر المقول، وهو كلام رب العالمين، الذي يقول فيه: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:٤٢].

والذي يقول: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:٨٨].

<<  <  ج:
ص:  >  >>