للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[فتنة اتهام امرأة العزيز ليوسف]

الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدون إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، رسول رب العالمين، وقدوة الناس أجمعين، وهداية السالكين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أمَّا بَعْد:

ثم ماذا كان بعد هذا؟

قال الله عز وجل: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} [يوسف:٢٥]-يريد أن يهرب وهي تلاحقه- {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} [يوسف:٢٥] شقت قميصه وهي تلاحقه وتدعوه إلى نفسها وهو يلتجئ إلى الله ويصيح بأعلى صوته، وصوته يدوي في القصر، {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:٢٣] قال جمع غفير من المفسرين إن معنى قوله: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:٢٣] أي: إن زوجك وسيدي أحسن استقبالي وضيافتي فكيف يكون جزاء معروفه ورد جميله أن أخونه في أهله؟

وقال السدي: إنه ربي أحسن مثواي: إنه إلهي الحي القيوم اجتباني ورباني وعلمني وحفظني، فكيف أخون الله في أرضه؟ وكيف أعصي الله؟ وكيف أنتهك حرماته؟

فيا من أراد أن يتجاوز المحرمات ويتعدى على الحرمات! تذكر معروف الله عليك، وقل: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:٢٣] قل: لا أعصي الله؛ لأنه رباني وكفاني ورزقي وآواني.

{وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف:٢٥] إنها قصة كلها مفاجئات، وإذا بسيده -وزوجها- لدى الباب وانظر إلى كيد النساء، تسبق يوسف بالكلام، وتلطم وتبكي وتشتكي، تقول: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:٢٥] غلق علي الأبواب، ودعاني لنفسه، فما هو جزاؤه عندك إلا السجن أو عذاب أليم؟ قال ابن عباس: [[يضرب بالسياط]].

وقال يوسف بلسان الصادق الناصح الأمين التقي الورع الزاهد: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف:٢٦] فمن هو الشاهد يا ترى؟ قيل: رجل من أبناء عمومتها شهد عليها، وقيل: ابن خالها، وقيل: رجل من الخدام، والصحيح الذي عليه الجمهور أنه طفل صغير كان في الغرفة لا يتكلم فأنطقه الله الذي أنطق كل شيء، أتوا إلى الطفل في المهد فقال: صدق يوسف وكذبت المرأة، هي التي همت به، وهي التي راودته ودعته إلى نفسها.

ولذلك في مسند أحمد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {أربعة تكلموا في المهد: ماشطة امرأة فرعون، والغلام الذي مع جريج، وعيسى عليه السلام، والغلام الذي شهد ليوسف عليه السلام} وهذا سند جيد، وهذا الشاهد، وقبل أن يفضح المرأة عرض قصة ليستدل بها على أن يوسف هو الصادق قال: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [يوسف:٢٦] فبدأ بتصديقها، لأنها ملكة ولأنها صاحبة منصب، ولأن التهمة بعيدة عنها {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:٢٧] فأتى الحكام والشهود وحضر الناس فاطلعوا فرأوا قميص النقي التقي قُدّ من دبره، فصدقوه وأعلنوا براءته، واستخلصوه ووفوه حقه من التبجيل والإكرام، إلا بعض الأمور التي سوف تأتي.

ثم قال الله عز وجل على لسان العزيز: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف:٢٩] أي: لا تتكلم ولا تتحدث به في المجالس لا توزعه في الأندية، وكثير من الناس يتبجح في المجالس بالمعصية.

وقال بعض المفسرين: إن العزيز قال ليوسف: أعرض عن هذا، ولا تتحدث به إلى الشعب المصري فيبثها ويوزعها.

ثم قال: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف:٢٩] انتصار على النفس الأمارة بالسوء ما بعده انتصار، وهل النصر العجيب إلا أن ينصرك الله على نفسك، وأن يعلي حظك، وألا يخيب ظنك، وأن يحفظك من الفتن، ومن المحن ومن المعاصي {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:٦٤].

يا من حفظ يوسف عليه السلام احفظنا بحفظك، ويا من رعاه ارعنا برعايتك يا أرحم الراحمين، ويا من حرسته احرسنا بعينك التي لا تنام إنك على كل شيء قدير.

عباد الله صلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:٥٦].

اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وأرض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.

اللهم دمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين.

ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولوالد والدينا، ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين.

عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً.

وارذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

<<  <  ج:
ص:  >  >>