للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بيان قوله تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)

الفتح هو: مكة و (نَصْرُ اللَّهِ): لم نسمع في التاريخ برجل انتصر كما انتصر محمد صلى الله عليه وسلم.

وفي الحقيقة أن نصره لم يكن رخيصاً، فبعض الناس ربما ينتصر في ساعات، أو في جولات في أول المعركة، لكنْ هو ما انتصر حتى شاب رأسه، وشابت رءوس أعدائه، خاض غزوات هائلة، وسرايا واقتحامات، ودفع أغلى ما يملك، وقُتِل من أصحابه المئات، وقُتِل أحبابُه وأقاربُه، وشُجَّ رأسُه، وانكسرت ثنيتُه، وفُلِّل سيفه، واقْتُحِمَت عليه خيمته مرات، دارت عليه إحدى عشرة محاولة اغتيال، ولكنه في الأخير ينتصر.

أتى بنصر، لكن بثمن باهظ.

ثمن المجد دم جدنا به فاسألوا كيف دفعنا الثمنا

فلما انتصر عليه الصلاة والسلام انتصر انتصاراً لم يسمع الناس بمثله، دخل مكة بعشرة آلاف مقاتل، في عشر كتائب.

الكتيبة الأولى: ألف مقاتل، لا يُرى منها إلا العيون، وكانت مدججة بالسلاح والحديد.

الكتبية الثانية: ألف من قبيلة أسلم.

الكتبية الثالثة: ألف من قبيلة مزينة.

الكتبية الرابعة: ألف من قبيلة أشج.

الكتبية الخامسة: ألف من قبيلة جهينة.

الكتبية السادسة: ألف من قبيلة أسد.

وهكذا ألفٌ فألف.

ثم دخل هو بالأنصار، وكان وسطهم، فلما رآى أعلامهم ترفرف على ريع الحجون قريباً من الحرم المكي، وهي ترتفع، يرفعها الزبير؛ دمعت عيناه من الانتصار، وهذه الدموع دموع النصر، دمعت عيناه وسالت على خده، قال ابن القيم: ونكس رأسه حتى أصابت لحيتُه قَتَبَ الفرس، أو قَتَبَ الناقة تواضعاً لله.

طفح السرور علي حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني

وأخذ صلى الله عليه وسلم ينحدر بالجيش من ريع الحجون تجاه الحرم، وأخذن النساء يخرجن بالخمار، كل امرأة تخرج بالخمار، وتأتي على فرس أحد المقاتلين معه صلى الله عليه وسلم فتضرب وجه الفرس بخمارها، أما المقاتلون من الكفار، ففروا إلى رءوس الجبال، فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال: أين أبو بكر؟ قالوا: هنا يا رسول الله! قال: تعال، فقَرُبَ منه، قال: كيف يقول حسان؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يحفظ الشعر، كما قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:٦٩] ولأن حساناً قال قبل المعركة بستة أشهر:

عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها (كَداءُ)

تظل جيادنا متمطرات تلطمهن بالخُمُر النساءُ

فإما تعرضوا عنا اعتمرنا وكان الفتح وانكشف الغطاءُ

وإلا فاصبروا لجلاد يوم يعز الله فيه من يشاءُ

وهي قصيدة رائعة بديعة، شكره عليه الصلاة والسلام عليها ودعا له، وقال: {إن الله يا حسان! شكر لك بيتك} الله من السماء شكر له هذه القصيدة.

فلما أتت المناسبة كأن حساناً كان يعيش لحظات المعركة، فقد خرجت النساء يضربن الخيول على وجوهها، فقال صلى الله عليه وسلم: كيف يقول حسان يا أبا بكر! قال: يقول:

تظل جيادنا متمطرات تلطمهن بالخُمُر النساءُ

قليلاً قليلاً وإذا السيوف تلمع عند الخندمة، فقال صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ قالوا: خالد لقي قتالاً؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزع العشرة آلاف أربع فرق، تُسْقِط مكة أمامه يوم الفتح، العاصمة المقدسة تكون لمحمد صلى الله عليه وسلم، ليست لـ أبي جهل ولا لـ أبي لهب، ليست لأعداء الله، وإنما الأرض لله يورثها من يشاء، فهذه الأقدام المستعمرة الخائنة الخاسئة لا يحق لها أن تعيش على الأرض، فسقطت مكة إلا خالد بن الوليد فإنه دخل فلقيه كفار قريش يقاتلونه في الخندمة، أحدهم كان يسل السيف كل صباح، ويسقيه سماً حتى أصبح السيف أزرقاً فقالت له زوجته: ماذا تفعل به؟ قال: أقتل به محمداً، وقال:

هذا سلاح كامل وأَلَّه وصاحبي بالله ما من عله

يقول: ليس عندي من علة في جسمي، والسيف كامل, وسوف أقتل محمداً، فخرج يلتقي خالداً، فأظهر خالد الهزيمة، واستدرجهم من بين البيوت، والسكك، فخرجوا وراءه فلما أصبحوا في الصحراء كَرَّ عليهم أبو سليمان، فأخذ يُعمل فيهم السيوف إلى صلاة الظهر، فدخل صاحب السيف هذا، وأغلق عليه بابه مع امرأته، فقالت: أينك قاتلك الله؟ أين سيفك؟ أين السم الذي حشوته شهراً؟، قال:

إنك لو شهدت يوم الخندمة إذ فر صفوان وفر عكرمة

يقول: إن القادة الذين هم أحسن مني ومنك وأبطل وأشجع قد فروا، فكيف أنا!

إنك لو شهدت يوم الخندمة إذ فر صفوان وفر عكرمة

والمسملون خلفنا في غمغمه يلاحقونا بالسيوف المسلمة

المسلمون يصيحون ويكبرون، هذا جيل محمد صلى الله عليه وسلم، وطلابه.

والمسلمون خلفنا في غمغمة يلاحقونا بالسيوف المسلمة

لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة

وهذا عذر وجيه.

دخل صلى الله عليه وسلم وفُتِح له الحرم، ومشى ومشى، ثم أتى إلى البيت، فأزال الأصنام، وكان بيده قضيب، فكان يشير إلى الصنم إشارة، فيسقط الصنم على ظهره، ويشير إلى قفاه، فيسقط على وجهه، فلا يسقط إلا ويصبح -وبعضها من الحجارة- حباً منثوراً في الأرض.

فكان صلى الله عليه وسلم يقول: {{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:٨١]} ثم يُخْرِج صلى الله عليه وسلم حِلَق باب الكعبة، والعشرة الآلاف طوقوا أبواب الحرم، لا يدخل داخل ولا يخرج خارج، وكفار قريش كلهم في الحرم، هؤلاء القادات الكافرة الذين قاتلوه في بدر وأحد، كل هؤلاء أمامه، فقال: {ما ترون أني فاعل بكم؟} أي: أن السيف في يدي وليس عندكم سيوف، والسلاح عندي وليس عندكم سلاح، والله نصرني والهزيمة عليكم, ماذا تتوقعون من الجزاء المر؟

فأخذوا يتباكون، ويقولون: أخٌ كريم، وابن أخ كريم، الآن جاءت الأخوة، فقال: {اذهبوا فأنتم الطلقاء، عفا الله عنكم}.

<<  <  ج:
ص:  >  >>