للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[ألا إن سلعة الله الجنة]

قال ابن القيم: إن سلعة هذا شأنها لقد هيئت ليوم عظيم وخطب جسيم.

قد هيئوك لأمرٍ لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ

فثمن الجنة هو بذل النفس والمال لمالكهما الذي اشتراهما من المؤمنين، تالله ما هزلت فيستامها المفلسون، ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون، لقد أقيمت للعرض في سوق (من يزيد) فلم يرض ربها لها بثمن دون بذل النفوس، فتأخر البطالون: أهل الأغنيات الماجنات، والمجلات الخليعات، وترك الصلوات، وأهل الكيرم والبلوت، وتقدم لها أهل لا إله إلا الله، وأهل إياك نعبد وإياك نستعين من أمثال خالد وسعد وعلي وبلال.

إن دندن الطبل في الخراب دندنا آيات حق علي وبلال دندنها

وقام المحبون ينتظرون من أيهم يصلح أن تكون نفسه الثمن، فدارت السلعة بينهم، فتقدم الصحابة: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:٥٤] فأتى أبو بكر بجسمه النحيف، فباعه إلى الله، فكان صدِّيقاً، وأتى عمر، فقاتل في الغزوات، فاغتيل في المحراب، وأتى عثمان فضرج بالدماء على المصحف، وأتى علي، فاغتيل في الكوفة مع صلاة الفجر، لأن نفوسهم قد بيعت بعقد ثابت، والله رضي العقد وشهده جبريل والملائكة، فأما أرواحهم فهي في حواصل طير خضر ترد الجنة وتشرب من مائها، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

قال: لما كثر المدعون للمحبة، طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، ولو أعطي الناس بدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي، فتقدموا بالشهود، قيل: ما شهودكم؟ قالوا: شاهدان عدلان، والبينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، قالوا: ما هي؟ قالوا: قال الله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:٣١] فاتبعوه عليه الصلاة والسلام، فأوصلهم إلى رضوان الله، فتأخر الخلق كلهم، وثبت أتباع الرسل، وجلس البطالون، وتقدم المؤمنون، فهذه سلعة الله عز وجل عرضت في سوق الجائزة، فكسبها أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وفازوا بها، وطمأنهم الله عز وجل على ذلك، فقال: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:١٦٩].

حضر جابر بن عبد الله وكان أبوه على الجمل في أحد فقال أبوه: يا جابر، انتظرني قليلاً، فذهب جابر في طلب مخيم الجيش، لأنه صغير في تلك الفترة لا يستطيع أن يقاتل مثل أبيه، وما بقي إلا ساعة وأتى، وإذا الجمل واقف، والرسول صلى الله عليه وسلم جالس عليه الكآبة والحزن والصحابة جلوس، قال: يا رسول الله! أين أبي؟ قال: أبوك هذا، فإذا هو قد ضرب ثمانين ضربة، وإذا هو مغطى بثوب بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: فكشفت عن وجه أبي، فإذا هو قد قتل، قلت: يا رسول الله! هذا أبي؟ قال: هذا أبوك، قال: فأخذت أبكي وأخذ الناس ينهونني، ورسول الله عليه الصلاة والسلام لا ينهاني، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: {يا جابر! ابك أو لا تبك، فوالذي نفسي بيده ما زالت الملائكة تظل أباك بأجنحتها حتى رفعته، والذي نفسي بيده يا جابر! لقد كلم الله أباك كفاحاً بلا ترجمان} يكلمه الله مباشرة، من فوق سبع سماوات، ويكلمه بلا ترجمان، يقول الله له: تمن، قال: أتمنى أن أعود إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، فتمن، قال: أتمنى أن ترضى عني فإني قد رضيت عنك، قال: فإني قد أحللت عليك رضواني لا أسخط عليك أبداً، فأنزل الله قوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:١٦٩ - ١٧٠].

فحيهلاً إن كنت ذا همةٍ فقد حداك حداة الشوق فاطو المراحلا

وقل للمنادي حبهم ورضاهمُ إذا ما دعا لبيك ألفاً كواملا

ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن نظرت إلى الأطلال عدن حوائلا

وقف ابن القيم يحيي أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام ويقول:

أما والذي شق القلوب وأوجد الـ ـمحبة فيها حيث لا تتصرم

وحملها قلب المحب وإنه ليضعف عن حمل القميص ويألمُ

لأنتم على قرب الديار وبعدها أحبتنا إن غبتم أو حضرتمُ

اللهم اجمعنا بهم في الجنة، اللهم أدخلنا في زمرتهم، اللهم اسقنا من حوض نبيك عليه الصلاة والسلام.

<<  <  ج:
ص:  >  >>