للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الدرس الثامن: الحراسة في الغزو]

إن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا كان في الأسفار أو الغزو جعل حارساً يحرس الناس، وما كان يعطيه راتباً عليه الصلاة والسلام، بل كان يعدهم بالجنة, جنة عرضها السماوات والأرض, فكانوا يتسارعون إلى هذا، كما فعل حذيفة في الليلة الظلماء عند أهل الأحزاب، وضمن له صلى الله عليه وسلم الجنة.

وكما حرس بلال بن رباح المسلمين في غزوة من الغزوات فقال له صلى الله عليه وسلم: يا بلال! ارمق لنا فجر هذه الليلة، فقام بلال فرمق من أول الليل, فلما قرب الفجر صلى الليل ما شاء الله، ثم جلس برمحه عند الناقة، فاعتمد عليها فنام، فلما نام جاء الفجر, ثم طلعت الشمس حتى أصاب الناس حر الشمس, فاستيقظ عمر رضي الله عنه أول الناس، فاستحيا عمر أن يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: قم صل، ومن عمر حتى يوقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وله ذلك فإنها من المصالح والفوائد لكنه استحيا.

فأتى بجانب أذن الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: الله أكبر، الله أكبر، فاستيقظ عليه الصلاة والسلام وقد استيقظ أكثر الناس وأصابهم من الخوف ما الله به عليم, تذكروا أنهم ما صلوا, وأن الشمس قد طلعت وارتفعت, فقال صلى الله عليه وسلم: لا عليكم، ثم أمرهم أن يقوموا، وقال يا بلال: أين رمقك الفجر هذه الليلة، فقال بلال: أخذ بنفسي يا رسول الله ما أخذ بأنفسكم، فتبسم عليه الصلاة والسلام.

يقول: أنتم وقعتم فيما وقعت أنا فيه, فلماذا تعاتبونني على هذا؟ فصلّى عليه الصلاة والسلام فصلوا، والشاهد أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يجعل حارساً من الصحابة في الغزو وفي الأسفار لفوائد:

١ - أن يوقظ المصلي والموتر في الليل.

٢ - أن يخبر الناس بهجوم طارئ على جيشهم وعلى متاعهم وعلى أهلهم.

٣ - تدريب الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه على هذا العمل الجهادي الشاق.

٤ - أن يجعل أجوراً لأهل هذه الأعمال ليتباروا في عمل الآخرة وليتقدموا عند الله.

قال عمار بن ياسر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما أمسينا ذات ليلة، قال: من يحرسنا هذه الليلة؟ فسكتنا، فقال: ليقم رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، قال: فقمت، وقام عباد بن بشر رضي الله عنه وعن عمار , الشاب الصادق الذي قتل يوم صفين ضرب على وجهه حتى سقط لحم وجهه من كثرة السيوف, ولما رآه الصحابة قالوا: نشهد أنك عند الله من الشهداء.

فبدأ عباد بالحراسة ثم قام يصلي, فبدأ يقرأ في سورة الكهف، فأخذ الأعداء ينظرون إليه وهو حارس يقرأ في الليل, وهم لا يعرفون الصلاة ولا القراءة فأخذوا يرمونه بالسهام, وما أراد أن يقطع القراءة، فأخذ كلما انغمس السهم في جسمه يخرجه وينزله في الأرض, ويستمر في القراءة، وكلما أتى السهم الآخر أخرجه ودماؤه تنصب من جسمه, وأتى السهم الآخر ويخرجه, فلما غلبته الدماء خفف في الصلاة, وقام وزحف إلى عمار، وقال: والله الذي لا إله إلا هو لولا أن أقتل فتفتح ثغرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين ما ختمت هذه الصلاة حتى أتم سورة الكهف، فقال عمار: رحمك الله، ألا كنت أيقظتني؟! فأخبره، فقام عمار رضي الله عنه وأدركوا هذا, فأيقظوا الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا يوضح لنا كيفية حراسة الصحابة للرسول عليه الصلاة والسلام وللمسلمين.

وكان حارسه عليه الصلاة والسلام ربما حرسه عند باب بيته قبل أن ينزل الله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:٦٧] يقول أنس: رجعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر فلما اقتربنا من المدينة دخل صلى الله عليه وسلم بيتاً له -أي خيمة- قال: فسمعته بالليل يقول: {ليت رجلاً صالحاً يحرسنا هذه الليلة} قال: فأتى سعد بن أبي وقاص فسمع من بعض الناس أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {ليت رجلاً صالحاً يحرسنا هذه الليلة} فتوضأ سعد بن أبي وقاص ولبس سلاحه وأخذ سيفه ووقف عند باب الخيمة من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر، فلما عَلِم صلى الله عليه وسلم بـ سعد قال: {اللهم اغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر} فكان من الحراس الصادقين.

أفضل أيام أبي عبيدة:

قيل لـ أبي عبيدة -وقد مر معنا هذا- أي يوم من أيامك أنت عند الله؟ وأي ليالٍ من لياليك أحسن عند الله؟ قال: ليلة واحدة من ليالي اليرموك، قالوا ما هي؟ قال: كنت أمير الجيش فقمت وسط الليل وقد نام الناس جميعاً، وكان ذاك اليوم مطيراً، والناس في نومة ما أحسن للمقاتل والمسافر منها، فأيقظت امرأتي وقلت: أتريدين ليلة من ليالي الجنة؟ قالت: بلى، قلت: قومي معي نحرس الناس، فقام يدور هو وامرأته في المخيم كلما رأوا إنساناً قد خرج لحافه من عليه ردوا اللحاف وألحفوه حتى أصبح الصباح، فهي من الليالي الخالدة التي يتقدم بها أبو عبيدة وكأنه ما عنده من الليالي إلا هذه الليلة، وكل لياليه لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

<<  <  ج:
ص:  >  >>