للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[وفاة معاذ رضي الله عنه]

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه والتابعين.

أمَّا بَعْد:

فيواصل معاذ رضي الله عنه رحلة الحياة رحلة العبادة والزهد، والعمل الصالح رحلة أن يريد الله وما عند الله، ولما أتت معركة اليرموك يوم كتب الله أن ننتصر من بغاة البشرية، وأن نزعزع أصنام الوثنية، ونمحق طغاة الأرض، سار أجدادنا من الصحابة ومعهم معاذ بن جبل، ووقفوا في الصفين، صف يقول: لا إله إلا الله، ولا حكم إلا لله، ولا شريعة في الأرض إلا لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وصف يدعي الوثنية والإشراك برب البرية سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وكان معاذ في المقاتلين؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه دفع بكل من عنده ليواجه الروم، دفع بالعلماء في خضم المعركة، وقاد الأبطال إلى النزال، ودفع بالأدباء كذلك؛ لأنه يريد أن تكون المعركة عسكرية، وإعلامية، وعلمية، وفكرية، وأدبية، وقام معاذ رضي الله عنه قبل أن تبدأ المعركة، وتلا سورة الأنفال بصوته المبكي الحزين، فبكى الناس، وقال: أيها المسلمون: اصدقوا الله هذا اليوم، فوالذي نفسي بيده، لقد تجلى الله لكم وقد فتح لكم جنات عرضها السماوات والأرض، وبدأت المعركة وانتصر عباد الله الموحدون، وعاد رضي الله عنه إلى مسجده في دمشق يعلم الناس ويؤدب الناس، وينشر العلم ويعطي مما أعطاه الله.

فلما أتته الوفاة، وكان سبب وفاته أن الطاعون أصاب الناس وانتشر فيهم، فوقع في يده اليمنى كالدرهم، وعمره ثلاث وثلاثون سنة صرفها في ذات الله، كلها علم ودعوة وإخلاص وإنابة، فيصيبه الطاعون كالدرهم في يمينه، فيخرج إلى الناس فيرفع يده ويقول: اللهم إنك تبارك في القليل وتكبر الصغير، اللهم بارك في هذا الجرح، اللهم ارزقني شهادة بالطاعون، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {الطاعون شهادة لكل مسلم} فعاد إلى بيته، ومضت هذه القرحة تلتهم جسمه، وهو يبتسم ويرضى بقضاء الله؛ لأن الحب في الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى إذا كمن في القلب فلله أن يفعل بالجسم ما شاء، ويحكم ما يريد، فهو طبيب الإنسان.

كيف أشكو إلى طبيبي ما بي والذي قد أصابني من طبيبي

وفي الصباح قال لابنته الخيرة البارة: اخرجي فانظري هل طلع الفجر، فنظرت فقالت: لم يطلع بعد، فعاد فاستغفر الله كثيراً وقال: اللهم إني أعوذ بك من صباح إلى النار، ثم قال: يا بنية! اخرجي فانظري هل طلع الفجر، فنظرت فقالت: طلع الفجر، فصلى في مكانه، ثم التفت إلى زوجته وأبنائه، ثم قال: أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، ثم رفع طرفه إلى السماء وقال: اللهم إنك كنت تعلم أني لم أحب الحياة لغرس الأشجار، ولا لجري الأنهار، ولا لعمارة الدور، ولا لرفع القصور، وإنما كنت أحب الحياة لظمأ الهواجر، أن أظمأ في سبيلك في يوم حار، يوم يشرب الناس، فلا أشرب لأصوم، ويوم يأكل الناس فلا أكل، ويوم يرتاح الناس فلا أرتاح؛ لأرتاح هناك في موقف يحضره الله ويحكم فيه، ثم يقول: اللهم إنك تعلم أني أحب الحياة لظمأ الهواجر، ولقيام الليل، ولمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر، ثم قال للموت: مرحباً بك، حبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم، غداً ألقى الحبيب محمداً صلى الله عليه وسلم، وذهب معاذ إلى الله، إلى الدار التي بناها في الحياة، إلى القيعان التي غرسها بالعلم والفكر والجهاد:-

لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها

فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها

أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها

أين الملوك التي كانت مسلطنة حتى سقاها بكأس الموت ساقيها

فاعمل لدار غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها

قصورها ذهب والمسك تربتها والزعفران حشيش نابت فيها

فيا من يريد الله والدار الآخرة: اعمل كعمل معاذ واذهب إلى طريق معاذ يوم أن تأتي الله مجرداً بلا منصب ولا وظيفة، بلا مال ولا ولد، بلا جاه ولا مهور، بلا بيوت {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:٩٤].

عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:٥٦].

اللهم صلِّ وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، وانصر المجاهدين في سبيلك يا الله.

<<  <  ج:
ص:  >  >>