للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[قوة النبي صلى الله عليه وسلم في الحق]

ثبت في سنن أبي داود: {أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مضمخ بطيب -والطيب له لون أحمر، ونحن منهيون جملةً عن الصبغة الحمراء، أو عن لبس الثوب الأحمر الذي ليس فيه أعلام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عنه- فنظر صلى الله عليه وسلم إلى الناس، ثم قال: لو نهيتم هذا} وهو صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم، وهو المسئول عن إخبار الناس بالأحكام، لكن حياءً ألا يواجه الناس بما يمكن أن يثير في أنفسهم شيئاً، فهو صلى الله عليه وسلم حيي ويستحي, لكنه لا يستحي صلى الله عليه وسلم من الحق، بل تقول عائشة: {كان إذا غضب صلى الله عليه وسلم لله لا يقوم لغضبه أحد} ونحن نعلم أنه ليس هناك أشجع منه صلى الله عليه وسلم، حتى يقول علي رضي الله عنه -وتعرفون من هو علي أبو الحسن -: [[كنا إذا لقينا القوم، واشتد الكرب اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أقربنا إلى القوم]] وكانوا يتقون به من السيوف والرماح.

ولذلك لم يثبت أبداً -وهذا معروف بالاستقراء- أنه صلى الله عليه وسلم فر من معركة، بل واجب عليه ألا يفر، ويحرم عليه صلى الله عليه وسلم لو فر الناس جميعاً أن يفر، حتى يقول بعض أهل العلم منهم القرطبي وابن العربي: لو قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الدنيا بأسرهم، وكانوا في صف وكان في صف، لما تأخر ولما فر أبداً، لأن الله يقول: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء:٨٤] فهو لا يكلف إلا نفسه بالثبات، أما غيره فله أن يوصيهم بالثبات عليه الصلاة والسلام.

ولذلك في حنين، لما أتى مالك بن عوف النصري، واقتحم باثني عشر ألف مقاتل على جيش الرسول صلى الله عليه وسلم، ففر الناس، قال جابر p>>: فأمطرونا بالنبل حتى كأنه الغمام على رءوسنا، ففرت الدواب، والجمال والخيول بأصحابها.

فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {يا عباس! نادِ في الناس}.

فأخذ العباس يرفع صوته -وكان جهوري الصوت حتى كان ينادي أبناءه من بيته في المدينة، وفي الغابة فيسمعون صوته- فيقول: يا أهل سورة البقرة! يا من بايع تحت الشجرة! هلموا رحمكم الله، فلا يجيبون، ومالك بن عوف بهوازن وغطفان تعلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم الجبل.

فقال صلى الله عليه وسلم: {نادِ بالأنصار، قال: يا أيها الأنصار! يا حماة الدار! يا آخذين بالثار! عودوا إلى الرسول المختار، فما سمع ولا رأى صلى الله عليه وسلم أحداً يعود} بل فروا؛ وبعضهم فرت به دابته، وبعضهم متشكك من أول الطريق، ما صمم على القتال أصلاً، منهم مسلمة الفتح.

وقال صفوان بن أمية: اليوم بطل السحر - نسأل الله السلامة-، لأنه من مسلمة الفتح.

فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {نادِ بني الحارث، فنادى العباس في بني الحارث، وكانوا أشجع الأنصار من الخزرج، فأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهم ثمانون- فاجتلدوا أمامه}.

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقاتل من أول النهار، لم يفر أبداً ولم يتأخر، حتى يقول العباس: كنت آخذ ببغلته علها ألا تتقدم، فأبى صلى الله عليه وسلم إلا أن يتقدم، ثم نزل عن بغلته، وسل سيفه، ويقول: {أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب} حتى رد صلى الله عليه وسلم كتيبة مالك بن عوف النصري على وجهها.

قال الأنصار -بني حارثة-: ما أتينا إليه صلى الله عليه وسلم إلا وقد انهزم القوم، وأخذ حفنة من التراب فسفا بها في وجوههم، وقال: {شاهت الوجوه} فما بقيت عين إنسان من العدو إلا دخل في عينه من هذا التراب، فأخذت عيونهم تدمع، وأتى بنو حارثة, فقاتلوا أمامه صلى الله عليه وسلم حتى سمع لشظايا السيوف كسير من على رءوس الناس.

فرفع صلى الله عليه وسلم صدره، وقال: {الآن حمي الوطيس} وهو أول من قالها من العرب كما يقول أبو قتيبة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أول من قالها وتمثل بها, والوطيس أي: اشتد الكرب، واعتلت المعركة.

المهم أنه صلى الله عليه الصلاة والسلام في وقت الشجاعة، والإقدام، وإقامة الحدود، لا يمكن أن يتأخر، ولذلك يقول فيه مالك بن عوف النصري لما رآه، وهزم جيشه، ورده صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وأنزله مكرهاً مرغماً، قال:

ما إن رأيت ولا سمعت بمثله في الناس كلهم كمثل محمد

أعطى وأجزى للنوال إذا اجتدى ومتى تشأ يخبرك عما في غد

وإذا الكتيبة عردت أنيابها بالزمهرير وضرب كل مهند

فكأنه ليث على أشباله وسط الهباءة يخاذل في مرصد

فحياؤه عليه الصلاة والسلام حياء تعبدي تكليفي، ولو أن الله أعطاه من الحياء الغريزي، لكان المقصود الذي نتبعه فيه صلى الله عليه وسلم هو حياء العبادة التكليفي الذي يحجم صاحبه عن القبيح، وسبق في تعريف لأهل العلم في الحياء: مراقبة القهار مخافة من النار، وبعداً من العار، فهذا هو الحياء الذي يذكره صلى الله عليه وسلم والذي قال للأنصاري: {دعه فإن الحياء من الإيمان}.

ومقصد البخاري رحمه الله أن يستدل بهذا على أن أعمال القلوب والآداب تدخل في الإيمان، وهو بهذا يرد على المرجئة؛ وقد بدأ الصحيح في الرد على الطوائف المبتدعة, فرد أولاً على الخوارج، ثم على الكرامية، ثم واصل المسيرة في الرد على المرجئة، وسوف يمر معنا أنه سوف يرد على من قال: بخلق القرآن من الجهمية المعطلة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>