للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[التقوى]

قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:٢٨٢] فإن اتقيت الله علمك الله، وفي أثر في سنده نظر، ومن أهل العلم من حسنه: {من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم} فأنت إذا عملت بما علمت من الحديث اليسير أو القرآن زادك الله علماً.

وجرب نفسك في أحاديث الأذكار، أو الأحاديث العملية، تجد أنك إذا حفظت حديثاً واحداً من أحاديث الذكر ثم ذهبت لتعمل به، وتطبقه، يمنحك الله فهماً وزيادة في الإشراق، وفي النبوغ والذكاء والفطنة والإدراك.

فيا إخوتي في الله! لا ينقصنا علم، وأنا أجزم جزماً أن أصغر جالس في هذه الحلقة يستطيع أن يعلم أمة من الأمم، وأن يكون من أكبر الدعاة في الدنيا، إذا اتقى الله وعمل بعلمه، فنحن لا ينقصنا كثرة علم، نحن ينقصنا العمل والتقوى والإنابة والإخلاص.

والتقوى تشمل العمل والخشية، خشية القلوب وعمل الأركان والجوارح.

قال أحد المحدثين: ذهبت إلى بغداد لأطلب الحديث، فمات الراوي الذي أريد أن أطلب الحديث منه، فلقيني يحيى بن سعيد القطان وقال: يا فلان! إن فاتك هذا الشيخ فلا تفوتك تقوى الله.

أي: إن فاتك شيء من العلم، أو التحصيل، أو الذكاء، أو الفطنة فلا تفوتك تقوى الله.

وترجم الذهبي لـ ابن الراوندي وهو فيلسوف زنديق ملحد، كلب معثر، أكل عجين المسلمين، ألف كتاب " الدامغ على القرآن " يدمغ به القرآن، وكان من أذكياء العالم، قال الذهبي: لعن الله الذكاء بلا إيمان، وحيا الله البلادة بالإيمان، رجل بليد مؤمن خير من ذكي فاجر، فماذا ينفع الذكاء إذا دهده الإنسان وساقه على وجهه إلى النار، يؤتى به يوم القيامة، ويشنق ويعلق في نار تلظى؛ لأنه استخدم ذكاءه وفطنته في محاربة الإسلام والدين.

فنحن لا نشكو من قلة الذكاء إنما نشكو من قلة العمل، وأبو العلاء المعري أحمد بن سليمان هذا الشاعر الفاجر اعترض على الشريعة، وكان ذكياً بارق الذكاء، نقل عنه ابن كثير وفي صحتها نظر، أنه نام على سرير فوضع تحت سريره درهماً من فضة، فقال: نزلت السماء بمقدار درهم أو ارتفعت الأرض بمقدار درهم، فهو أعمى، أعمى القلب وأعمى البصر لكنه ذكي وليس بزكي، قال: فاكتشفوا الدرهم تحت سريره كما نقل ابن كثير والعهدة على البداية والنهاية.

إنما انظر إلى الفجور، ذكي لكن ماعنده تقوى لله عز وجل، حافظة معلومات، شاعر مصقاع، أبياته كأنها أسياخ أو سلوس من ذهب، لكن ما وفقت بترتيب وإيمان، يقول في منظومة له جميلة ظريفة طريفة، ينقل منها ابن القيم:

يا راقد الليل أيقظ راقد السحر لعل في القوم أعواناً على السمر

يود أن ظلام الليل دام له وزيد فيه سواد السمع والبصر

وهذه من أحسن ما يقال، لكن ليته توقف على هذا، ليته أبدع في مجال الشعر، لكن انظر إلى الشعر في الساحة يوم ترك الإيمان، كيف ركب مركب الحداثة في الزندقة والإلحاد ومحاربة الإسلام، يقول: كم دية اليد قال: أهل العلم كذا، قال: في كم تقطع في الشريعة؟ قالوا: إذا سرقت ربع دينار، قال:

يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار

تناقض ما لنا إلا السكوت له ونستعيذ بمولانا من النار

يقدح في الشريعة، وأصول الإسلام، ويحارب الدين، يقول: لماذا هذه اليد إذا قطعت في غير الحدود وديت بخمس مئين ذهب، ولكن إذا سرقت ربع دينار قطعت، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:٥٠].

وانطلق له القاضي عبد الوهاب المالكي الشاعر السني الكبير وقال:

قل للمعري عار أيما عار جهل الفتى وهو عن ثوب التقى عاري

عز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمه الباري

لا تقدحن بنود الشرع عن شبهٍ شرائع الدين لم تقدح بأشعارِ

يقول: أنت عار، أنت مسلوخ لا في وجهك حياء ولا دين، أنت فاجر القلب، تعترض على شريعة الله، النار لك، والعار لك والدمار، وهذا نموذج للفجور إذا دخل في العلم.

ومنهم ابن سيناء كان من أذكى الناس، لكن لم يكن زكياً، أخذ عقيدته عن الصابئة أذناب المجوس، عميل ذكي، لكن ما استقبل القرآن والسنة، بل رفضهما وأخذ مبادئه وأسسه وأخلاقه من المجوس والصابئة الفراخ العملاء، فيقول ابن تيمية: إن كان صح عنه ما يقول في بعض الكلمات، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

لكن العلم إذا رشد، وكذلك الذكاء يكون كما قال تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:٢٥].

فهذا ابن تيمية من أذكياء العالم، عبقري عملاق، يقرأ المجلد مرة واحدة، فينتقش في ذهنه، ينظم القصيدة الواحدة من صلاة الظهر إلى صلاة العصر مائتان وثمانون بيتاً يرج بها رجاً، كتب التدمرية من صلاة الظهر إلى صلاة العصر، يضع رِجلاً على رِجل، ويكتب التدمرية يرد بها على الفلاسفة، ونحن نقرؤها في سنة كاملة في كلية أصول الدين ولا نفهمها ونرسب فيها لأنها التدمرية {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:٢٥].

ابن تيمية ما وجد أستاذاً يعلمه الفلسفة، فأخذ كتب الفلسفة فقرأها بنفسه ورد على الفلاسفة، كتاب سيبويه الحديد، جمله ما تفكك كأنها السلاسل، قرأ الكتاب بنفسه يوم اتقى الله، فوجد ثمانين خطأ، فرد على سيبويه مؤلف الكتاب، يقول: إذا أعجمت علي المسألة استغفرت الله ألف مرة فيفتحها الله عليّ.

ومن الذي يفتح إلا الله، كانت يد ابن تيمية -يقولون دائماً- كأنها يد مسكين، يقولون: يمرون به في بعض الأسياب، فإذا هو وحده في السيب يبكي ويمد يده كأنها يد شحات، والشحاتة حرام إلا عند باب الله، فهي واجب من الواجبات.

وابن تيمية يخرج إلى الصحراء، فتدمع عيناه لأنه يناجي الله ويقول:

وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس في السر خاليا

>>

هذا البيت لـ مجنون ليلى، بيت طريف جميل، لكن استخدمه في غير محله، يقول مجنون ليلى في محبوبته:

وإني لأستغشي وما بي غشوة لعل خيالاً منك يلقى خياليا

وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس في السر خالياً

عجيب! عقل كبير وقلب كبير، أيعيش الرجل المفكر الذكي الأريب لامرأة، أو لأغنية، أو لمجلة خليعة؟! لكن ابن تيمية عاش للمبادئ الخالدة الكبرى.

السلطان السلجوقي في دمشق يقول: يـ ابن تيمية أتريد ملكنا، قال: ما ملكك وملك آبائك أجدادك يساوي عندي فلساً واحداً، إنه يريد جنة وعرضها السموات والأرض، ولذلك رد هذا البيت وقلبه إلى حب الله فقال:

وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنكَ النفس بالسر خالياً

وفي الحديث: {ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} ونحسب ابن تيمية من هؤلاء والله حسيبه.

قال له رجل: كيف يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:٤٥] كيف يأمر الله عباده في وقت المعركة بذكره؛ وهم مشغولون والرماح تشتعل والسيوف تتكسر، وجماجم الأبطال تقع على الأرض؟ فقال ابن تيمية: إن أهل الجاهلية من العرب تعودوا على أن يذكروا محبوباتهم وقت الأزمات أما سمعت عنترة يقول:

ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم

فبدل هذا الهيام والعشق والوله والضياع، اذكروا الله.

<<  <  ج:
ص:  >  >>