للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[التحذير من التسرع في الإفتاء]

التسرع في الفتيا مرض خطير، لعلك تجد شاباً في الخامسة عشرة من عمره، قد جلس ولف رجله وقال في المسائل الصعبة: الذي تطمئن إليه نفسي كذا وكذا، من أنت يـ ابن تيمية حتى تطمئن نفسك؟ من أنت يا مالك بن أنس حتى توصلت إلى هذا اللموع والإشراق في المسألة؟ يهز رأسه ويقول: أرى والله أعلم أن هذه المسألة فيها ستة عشر قولاً، فيقال: أعطنا القول الأول فيقول: نسيته.

دخل أبو دلامة على الخليفة العباسي المهدي فقال: أتحفظ الحديث؟

قال: طلبت الحديث أياماً.

قال: حدثنا مما أعطاك الله.

قال: حدثنا فلان عن فلان عن عكرمة عن ابن عباس أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {من حفظ خصلتين دخل الجنة} نسي عكرمة خصلة، ونسيت الثانية.

وماذا استفدنا إذاً؟ إن الإجهاض الفكري والتصدر قبل حينه معناه الهضم والفشل والانهزامية، من تصدر قبل حينه، فاته التصدر في حينه.

لأنه قد تأتي من المجتمع أسئلة كثيرة؛ فإذا قال: لا أدري كشف أوراقه، كلما أتته مسألة قال: لا أدري! لا أدري، حتى لو قال العوام: كيف يتوضأ المتوضئ؟ قال: الله ورسوله أعلم.

كم صلاة الظهر؟ لا أدري.

كم صلاة العصر؟ لا أدري.

كم أركان الإسلام؟ لا أدري.

فلماذا لبست العمامة والنظارة والعكاز أمام الناس؟

قد يتوجه سؤال فيأتي الجواب قبل أن يكمل

السؤال

الحديث ضعيف، الحديث حسن، الحديث صحيح، ويغضب ذاك على أن قاطعه ذاك بالجواب، نسأل الله العافية، وهذا هوى لا بد أن نخلص أنفسنا منه، فلا بد أن نتمهل في الفتيا، لأنها صعبة.

قال رجل من التابعين: والله إنكم لتفتون في مسائل لو عرضت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر، وسأل رجل زيد بن ثابت في مسألة، فقال زيد: أوقعت؟ قال: لا.

ما وقعت؛ لكن أسأل عنها لأنها ربما تقع، قال: اذهب، فإذا وقعت تجشمنا لك جوابها.

وسئل علي بن أبي طالب عن مسألة فقال: لا أدري، وما أبردها على قلبي لا أدري!

وسأل رجل ابن عمر: فقال: لا أدري قال: أقول: إن ابن عمر لا يدري، قال: اذهب وكل من لقيت فقل: ابن عمر لا يعرف شيئاً.

وقال ابن عمر: أتجعلوننا جسراً إلى جهنم، إنسان يطلق زوجته ثم يأخذك بتلابيب ثوبك، لأنك فقيه في الشريعة ويريد أن تنقذه، فيربطك وينطلق، ثم يوم القيامة يأتي وليس عليه شيء، وأنت رددت له زوجته، وحللت له زوجته، كإنسان وقع في رضاعة مع زوجته فتفتيه فتقول: نتوكل على الله الفتاح العليم، هذا يجوز فليتزوج من فلانة، فيُحلّ ما حرم الله عز وجل، قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:١١٦].

أتى رجل إلى الإمام مالك في أربعين مسألة، فأجاب عن ثمان مسائل ورد اثنتين وثلاثين مسألة، قال: يا مالك! أتفتي في هذه وقد ضربت لك أكباد الإبل من العراق إلى هنا، قال: ما أعرف إلا هذه، ارجع إلى الناس وقل: مالك لا يعرف.

لكن الوعظ والدعوة غير الفتيا، الفتيا لها أناس، من بلغ في العلم مبلغاً عظيماً فليفت، وأما الدعوة فكل إنسان يدعو بما عنده، ولا يلزمك إذا خطبت الجمعة، أو ألقيت درساً أو محاضرة أن تفتي الناس، أو أفت فيما تعرف، ولا تفت من عندك، بل إذا لم تعرف فقل: لا أدري والله أعلم.

وأما التصدر فمرض خطير، وهو أن يأتي إنسان في أول الطريق فيتصدر، وهو محمود من جانب ومذموم من جانب، أما حمده فإنه من قوة الهمم، قال تعالى في صفات عباد الرحمن: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:٧٤] قال عثمان بن أبي العاص في سنن أبي داود يا رسول الله! اجعلني إمام قومي، قال: {أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً} فمن إبداعك وعلو همتك أن تكون إماماً أو خطيباً أو محاضراً أو متحدثاً، فهذا من إشراقك وإبداعك وروعتك، لكن الخوف أن تعطي نفسك أكثر من حجمها، فربما يصح أن تكون خطيباً لكن لا تقل: أنا مفتي الزمن! أنا فريد العصر! أنا درة الدهر! أنا بركة الوقت! {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق:٣].

فليتدرج تدرجاً، ولا يعطي نفسه أكثر من حقها ولا يهضمها، لأنه إذا هضمها وسوس له الشيطان، يجلسه في زاوية ثم يقول له: لا تفت ولا تحدث ولا تخطب، فتبقى الأمة في جهل.

<<  <  ج:
ص:  >  >>