للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[استشهاد زيد بن حارثة في معركة مؤتة]

أتت معركة مؤتة التي في الأردن في معان -وسوف أسوق لكم هذا لأجل الشهادة التي تليت، نسأل الله تعالى أن يشرفنا بالشهادة، وأن يتوجنا بتاجها, فإن من سأل الشهادة أعطيها ولو لم تصبه, إذا سألتها بصدق ولو لم تمت شهيداً أعطاك الله الشهادة ولو مت على فراشك- فأتت معركة مؤتة، وحضر الصحابة رضوان الله عليهم, بنو هاشم وبنو عبد شمس, أعظم أسر في الدنيا وفي الكرة الأرضية, ما خلق الله في المعمورة، لا في آسيا ولا في أفريقيا ولا في استراليا ولا في أوروبا ولا الأمريكتين أعظم من بني هاشم وبني عبد شمس, فأتوا لأنهم يسمعون من الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يريد أن يجهز جيشاً، فيريدون أن يكونوا قواداً, ليشرفهم صلى الله عليه وسلم بأن يعطيهم الراية, فخطب صلى الله عليه وسلم، وأخبر أن الروم أصبحوا في بلد معان في الأردن , وأن عدد الروم ما يقارب مائة وثمانين ألفاً, فاختار ثلاثة آلاف من الصحابة إننا نقاتل بالحفنات لكن معنا لا إله إلا الله والأعمال الصالحات، نحن لا نقاتل الناس ببشر، ولا بكثرة معدات وإنما نقاتلهم بلا إله إلا الله مع الإعداد, فلما جهز صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف, قال: {من نولي عليكم؟} كلٌ رفع رأسه, الإمارة محبوبة وطعم، وهي أشهر من هاروت وماروت, ولذلك فإنك تجد حتى الأطفال في البيت وهم صغار يحبون الإمارة وهم في الصغر, إذا قلت: من يفتح الباب؟ يتقافزون على فتح الباب, لأن الإنسان يريد الناموس, فسكت بعضهم وبعضهم استشرف, فقال: {قم يا زيد بن حارثة} -والرسول صلى الله عليه وسلم مما علمه الله أن زيد بن حارثة سوف يقتل- قال: {فإذا قتلت فليتول بعدك جعفر بن أبي طالب.

فقام جعفر , قال صلى الله عليه وسلم: وأنت يا جعفر إذا قتلت فليتول بعدك عبد الله بن رواحة} وذهب الجيش، وودعوا الرسول صلى الله عليه وسلم.

وبدأت المعركة، ولبس زيد بن حارثة أكفانه؛ لأنه أراد ألا يعود مرة ثانية, وولّى وجهه شطر الأعداء، وأخذ يقاتل من الصباح إلى قبيل الظهر, حتى كلّت يداه من كثرة الضرب, وفي الأخير ضُرِبَ رضي الله عنه وطعن ووقع شهيداً على الأرض, والرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، والمعركة في معان قريب مؤتة في الأردن , والرسول صلى الله عليه وسلم يعيش لحظات المعركة, لحظة بلحظة وحركة حركة, وسكنة سكنة، يطلع عليهم, فلما قتل زيد بن حارثة التفت صلى الله عليه وسلم، وبكى وبجانبه أسامة ولد زيد، فدعاه صلى الله عليه وسلم وقبّله، فقالوا: ما لك يا رسول الله؟ قال: {شوق الحبيب لحبيبه.

قالوا: أحدث شيء؟ قال: قتل زيد بن حارثة}.

وأخذ الراية جعفر رضي الله عنه، أأخذها ليستميت؟ لا.

تناول السيف وأخذ الراية رضي الله عنه، وهو يقول:

يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها

والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها

عليّ إن لاقيتها ضرابها

ثم أخذ يضارب حتى قرب العصر, ثم قطعت يده اليمنى، ثم أخذ الراية باليسرى, فقطعت اليسرى, فضم الراية, فضرب بالرماح على صدره رضي الله عنه فوقع شهيداً, فقال صلى الله عليه وسلم، وهو يبكي: {وأخذ الراية جعفر فقتل وأبدله الله مكان يديه جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء} ثم قام من مجلسه صلى الله عليه وسلم, وأتى إلى أبناء جعفر في بيتهم مع أمهم أسماء بنت عميس الخثعمية , فقال صلى الله عليه وسلم: {أين أبناء أخي جعفر؟ وهو يبكي, فأخذت تولول وتبكي، عرفت أن في الأمر شيئاً, فقالت: يا رسول الله! قتل جعفر؟ قال: نعم, قالت: من أبونا إذاً؟ قال: أنا أبوكم بعد أبيكم، أنا وليكم في الدنيا والآخرة} ثم أخذ صلى الله عليه وسلم أطفاله، وأخذ يضمهم ويقبلهم عليه الصلاة والسلام.

وعاد إلى مكانه ليتابع ما تنتهي إليه المعركة, فأخذ الراية عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه وكان صائماً, ومع الغروب دعي إلى أن يأخذ الراية فتلكأ, لأنه يريد أن يفطر على شيء, لأنه جائع من الصباح, فناولوه قطعة لحم فأخذ يأكل فما استساغها؛ يرى الرايات تتكسر والسيوف تتحطم, والرماح وشظايا السلاح تتدفق على رءوس الناس معركة طاحنة اشتدت قبل صلاة المغرب, وهو القائد المعين من الرسول صلى الله عليه وسلم ليأخذ مكانه, فألقى العظم هذا, ولم يأكل شيئاً, وقال:

أقسمت يا نفس لتنزلنه

لتنزلن أو لتكرهنه

إن أقبل الناس وشدوا الرنة

مالي أراك تكرهين الجنة

هل أنت إلا نطفة في شنة

ثم قتل رضي الله عنه وأرضاه, فرفع الله هؤلاء الشهداء, وقام عليه الصلاة والسلام على المنبر، وقال: {لقد ارتفعوا على أسرة من ذهب، ودخلوا الجنة وفي سرير ابن رواحة ازورار} رضي الله عنهم وأرضاهم.

هذه هي الشهادة, وهذه هي أعظم المنازل بعد منزلة النبوة, وعلى المسلم أن يتشرف لها دائماً، وأن تكون همته عالية, لأن أي حياة ليس فيها طلب شهادة أو طلب استقامة أو طلب تضحية أو طلب فداء فهي حياة بهائم، نسأل الله العافية!

<<  <  ج:
ص:  >  >>