للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حال العرب قبل وبعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم]

يا معشر العرب: كنا قبل لا إله إلا الله نطوف بالوثن، ونسجد للصنم، لا أدب، ولا ثقافة، ولا حضارة، ولا فنون، ولا رُقِي لنا، فلما بعث الله فينا محمداً عليه الصلاة والسلام، أذن في آذاننا بلا إله إلا الله، فتوضأنا بماء التوبة، وأخذنا سيوف النصر، وفتحنا الدنيا وصلينا على ضفاف دجلة والفرات وسيبيريا والسند والهند، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:٢].

إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها

بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها

يلبس المرقع صلى الله عليه وسلم؛ ولكنه يقود القلوب إلى الله، ويسكن بيت الطين، ولكنه يبني لأمته قصوراً في الجنة، ويلتحف قطعة من القماش لكنه يُلحف أمته نوراً من وهج الوحي.

إن حقيقة الدنيا، لم يعرفها إلا رسول الله عليه الصلاة والسلام.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "الناس في حقيقة الدنيا صنفان: أهل التصوف الهندي المذموم، وهؤلاء أعرضوا عن الطيبات على مذهب المسيحية النصرانية.

وأهل الدنيا المتوغلون في دنياهم، عُبَّاد الشهوات" الراقصون على الملذات، مجلة خليعة، وأغنية ماجنة، ودُفّ ومزمار وطبلة، لا يعرفون الدعاء ولا الاستغفار، ولا الالتجاء إلى الواحد القهار، وتوسط أهل الإيمان، فعرفوا معنى الحياة، معنى لا إله إلا الله، ما معنى أن تكون عبداً لله؟ وكيف تقضي يومك وليلك؟ هذه معنى رسالته عليه الصلاة والسلام.

يقول أهل العلم من أهل السير والتاريخ: خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه؛ ليأخذ مفتاح بيت المقدس الذي ضيعناه يوم ضيعنا لا إله إلا الله، بيت المقدس الذي ذهب منا حين أصبحت راياتنا -إلا ما رحم ربك- غير إسلامية، ونقول لـ عمر:

رفيق صلاح الدين هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر

رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجيشك في حطين صلوا وكبروا

ذهب عمر على ناقة ومعه خادمه، وظن النصارى في بيت المقدس أن عمر سوف يأتي بموكب حار، وبعَرَمْرَم من الحرس، فأتى عمر بثوب قديم فيه أربعة عشر رقعة.

يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه

يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه

خرج عمر على ناقته يركب ساعة وخادمه ساعة، واقترب من بيت المقدس، وخرج النصارى رجالاً ونساءً وأطفالاً على أسطح المنازل ينظرون إلى عمر بن الخطاب، إلى هذا الرجل الذي دوَّخ العالم وهزَّ ربوع المعمورة.

كيف يأكل؟ وكيف يمشي؟ وما حرسه؟ وما ثيابه؟ وما لباسه؟ وإذا بـ عمر يقبل على ناقة، فقال النصارى: ربما هذا الرجل يبشر بـ عمر فلما علموا أنه عمر ارتفع بكاؤهم تأثراً، يقول أحد المسلمين لـ عمر: [[يا أمير المؤمنين! لو أخذتَ حرساً وجنوداً؟ قال عمر: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله]] ويدخل عمر ويصلي في بيت المقدس ويفتحه بإذن الله، ببردته، وبعصاه وبدرته، وبإخلاصه وإيمانه، لأنه عرف الله.

حقيقة الدنيا لم يعرفها إلا محمد عليه الصلاة والسلام، يقول سبحانه: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:١١٦] يقول للناس، وبعض المفسرين قالوا: يقول لأهل الكفر، والصحيح العموم، لأنه لا مخصص، يقول الله للناس يوم القيامة: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:١١٢ - ١١٦] وفي ترجمة نوح عليه السلام الرسول والنبي الكريم، لما حضرته الوفاة، قال له محبوه: كيف وجدت الحياة؟ -وقد عاش أكثر من ألف سنة، منها ألف سنة إلا خمسين في الرسالة- قال: وجدت الحياة كبيت له بابان، دخلت من هذا وخرجت من ذاك.

يقول أبو العتاهية وهو يخاطب المهدي الخليفة العباسي الذي كان يحكم ثلاثة أرباع العالم الإسلامي، خليفة كان يقف على رأسه الوزراء من البرامكة وأمثالهم، ولا يلتفتون إليه من هيبته وصولجانه وسلطانه في الدنيا، لكن سلبه الذي يفرق الجماعات، ويأخذ البنين والبنات، ويهدم اللذات، أخذه سُبحَانَهُ وَتَعَالى! وسبب موته عند بعض المؤرخين: أنه شرب ماءً بارداً فشرغ به فمات، فذهبوا به إلى المقبرة، فيقول أبو العتاهية:

نُحْ على نفسك يا مسكيـ ـن إن كنت تنوحُ

لتموتن ولو عُمرت ما عمر نوحُ

كل بطاح من الناس له يوم بطوحُ

وهذا مصداق قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:٩٤] وسبب نزول هذه الآية: أن أبا جهل يقول: يزعم محمد أن عند ربه ملائكة، تسعة عشر على النار، أنا أكفيكم بعشرة، وأنتم اكفوني بتسعة، فيقول سبحانه: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى} [الأنعام:٩٤] مَن الذي خرج مِن الدنيا بأحبابه وخلانه؟ مَن الذي ذهب بالثياب والأصحاب؟ لا أحد أبداً، ولذلك يقول سبحانه في سورة أخرى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:٩٣ - ٩٥].

<<  <  ج:
ص:  >  >>