للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[أقسام الناس بالنسبة لما ينزل من القرآن]

فقال سبحانه: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:٢٦] يعلمون أنه الحق, فما هو هذا الحق؟ قيل: القرآن, وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم, وقيل: الإسلام.

والقرآن إذ نزل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إذا قرئ حتى اليوم وبعد اليوم ينقسم الناس تجاهه إلى قسمين: قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:١٢٤ - ١٢٥] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الكفار: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} [فصلت:٤٤] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد:١٩].

والخطيب يوم الجمعة إذا قرأ الآيات، انقسم الناس إلى قسمين: قسم يزداد إيماناً وبصيرة وهداية ورشداً وتوفيقاً، وقسم يزداد نقصاً؛ لأنه منافق فاجر لا يريد القرآن ولا السنة, وهو إنما يصلي مع الناس عادة لا عبادة، قال الله: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:١٤٢].

إذاً فيقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:٢٦] يعلمون أن هذا الدين والرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن حق من عند الله.

وقال بعضهم - وهو الصحيح إن شاء الله-: يعلمون أن المثل -وهو الصحيح إن شاء الله- من عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, وأنه يضرب الأمثال وأنه يقص سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ما شاء, فسبحان الله كيف يتفاوتون إيماناً!!

وتصور أن الرسول عليه الصلاة والسلام يصلي بك صلاة الفجر أو العشاء، وتصور كيف يتلقى أبو بكر وعمر وعثمان وعلي القرآن، فإنهم كل يوم يزدادون إيماناً, وتصور المنافق كيف يزداد عمى من القرآن؛ لأنه يبغض القرآن ولا يحبه, قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:٥].

ثم يقول: {فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:٢٦] أي: هذا المثل وأنه وارد، وأنه صحيح, والله ضرب الأمثلة كثيراً في القرآن قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى--: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الرعد:٣٥] أي: صفة الجنة, وقال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:١١٢] وقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم:٢٤ - ٢٥]

ثم ذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى مثلاً آخر: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} [البقرة:٢٦] أي: لماذا يأتي بهذه الأمثال؟ ما هو المقصود منها؟ فهم كفروا وشكوا، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة:٢٦] قيل: يضل بالرسول ويهدي به, وقيل: يضل بالقرآن ويهدي به, ويضل بالإسلام ويهدي به, ويضل بالمثل ويهدي به.

يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة:٢٦].

أولاً: هل يضل الله عباده؟

قال تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:٢٥] والله هو الهادي, وجعل محمداً صلى الله عليه وسلم هادياً، فقال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:٥٢] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:٧] وقال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:٥٦] , وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى طالباً المؤمنين أن يدعوه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:٦] وقال جل شأنه: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:١٧] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس:٣٥] فهو يهدي سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

فهل يضل عباده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؟

عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله خلق العباد وأفعالهم, قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:٩٦] وأن الله خلق الهداية، وخلق الإضلال، وأنه قدر الخير، وقدر الشر, ولكن مع خلق الله عز وجل للإضلال وتقديره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لكنه لا يحبه ولا يرضاه, خلق الكفر ولا يحبه, وقدره ولا يرضاه, وأراده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ولكنه لا يحبه, وهذا الإضلال من كسب العبد, فإن للعبد مشيئة لكنها تحت مشيئة الله, قال سبحانه: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:٢٩] فمن ضل فلا يحتج بالقضاء والقدر بل له كسب وسبب, فهو الذي فعل, ولو أن الله قدر عليه لكن لا حجة له, ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} [البقرة:٢٦]

و

السؤال

كيف يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} [البقرة:٢٦]؟ لأن الأستاذ مثلاً -ولله المثل الأعلى- إذا قيل له: أنجح الطلاب أم رسبوا؟ فيقول: نجح كثير من الطلاب ورسب كثير من الطلاب, وإن قلت: نجح قليل ورسب كثير كان الجواب صحيحاً, لهذا يقال: قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} [البقرة:٢٦] أي أن هؤلاء الكثير بالنسبة لغيرهم قليل, لأن الله عز وجل يقول: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:١١٦] وقال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:١٣].

نزل عمر بن الخطاب إلى السوق فسمع أعرابياً يبيع ويشتري، ويقول: اللهم اجعلني من عبادك القليل, فوكزه عمر بالدرة, وهذه الدرة كانت تقوّم الذين في رءوسهم وساوس, هذه الدرة تدخل النور في بعض القلوب وتوقظ بعض الأذهان, فضربه ووكزه قائلاً: ما لك ولهذا الدعاء؟ فسّر لي هذا الدعاء؟ قال: يا أمير المؤمنين! يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:١٣] فأسأل الله أن يجعلني من ذاك القليل, قال عمر: كل الناس أفقه منك يا عمر! بل أنت من أفقه الناس, ومن أعلم الناس.

وأقل الناس الآن هم أهل الهداية، ولذلك لا تستغربوا أن تجدوا في هذا المسجد أو في غيره من المساجد كثيراً من الناس؛ لكنهم بالنسبة للفجار، وللمنحرفين والضائعين والضالين لا يساوون نسبة تذكر.

قاعات من قاعات الغناء والسمر والساعات الحمراء يحضرها الألوف المؤلفة, الأستاد الرياضي يحتشد فيه بالألوف المؤلفة وعشرات الآلوف, وإذا أتيت لأهل الدروس، وأهل الطلعات الخيرة، وأهل الصحوة الإسلامية وأهل الوجوه النيرة تستصغرهم بجانب أولئك.

تعيرنا أنا قليلٌ عديدنا فقلت لها إن الكرام قليل

وما ضرنا أنا قليل وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليل

لأن الأقلين فيهم خير فلا يعجبك كثرة الخبيث.

والناس ألف منهم كواحدٍ وواحدٌ كالألف إن أمر عنا

وإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال

خرج عليه الصلاة والسلام للأمة العربية، وهي قبائل مثل الموج, فأتى يدعو فأخذ أبا بكر ثم عمر وعثمان وطلحة وعلياً والزبير فكان يربيهم حتى أصحبوا ما يقارب الثلاثمائة, فغرس الإيمان في قلوبهم، وسكب لا إله إلا الله في أرواحهم، ووجههم إلى الدار الآخرة؛ ففتحوا الدنيا, فلما فتح الله عليهم الفتوح أتوا يدخلون بالعشرات، لكن كل عشرة بريال! نحن لا نستهزئ بأحد لكن أتجعل مسلماً في الفتح كمسلم ما قبل الفتح؟ لا يستوون، والله ذكر ذلك, ولذلك يكون الذين أسلموا بالعشرات والمئات فروا في المعارك وما بقي إلا الأسماء اللامعة التي أسلمت على يقين, قال الله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} [النصر:١ - ٢] ما دخلوا في أول الإسلام أفواجاً لكن اليوم دخلوا بكثرة، فقال الله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:٣].

إذا -أيها الأخيار- يضل الله من يشاء بالأمثلة ويهدي من يشاء, ويثبت هذا الحديث بما يليق به سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ويليق بجلاله وصفاته وذاته وعظمته تبارك وتعالى وتقدس وتنزه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>