للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[ابن عمر ورواية الحديث ورؤياه المنامية]

وعبد الله بن عمر من أكثر الصحابة رواية، بل هو من الرواة السبعة، ومن أكثر من روى الحديث النبوي عن المصطفى صلى الله عليه وسلم.

عاش عبد الله بن عمر في كنف النبوة، وترعرع في رياض السنة، ورتع في مروج العلم النافع الذي ورثه من محمد صلى الله عليه وسلم، عاش زاهداً عابداً مخبتاً داعية إلى الله حنيفاً ولم يكُ من المشركين.

أسلم مع أبيه وهاجر الهجرة، وما تزوج إلا بعد أن وصل إلى المدينة، كان أعزب في أول لياليه، فكان ينام في المسجد، فيقول عن نفسه: {كنت أعزب أنام في المسجد، وأرى الناس يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الرؤيا، فتمنيت أن أرى رؤيا في المنام لأقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم} وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الفجر التفت إلى أصحابه وقال: هل رأى أحد منكم رؤيا البارحة؟ لأن الرؤيا فيها ما يصدق وفيها ما يكذب، وهي ثلاثة أقسام:

رؤيا من الرحمن، ورؤيا من الشيطان، ورؤيا أضغاث أحلام.

فأما التي من الرحمن فهي التي من الرجل الصالح، في علم صالح بإذن الله وبشرى خير، فهي من المبشرات.

وأما رؤيا الشيطان فهي ما يوعد به الشيطان في المنام من زلازل وفتن ومحن وبأساء وكوارث ومصائب؛ فهذه من الشيطان، ولا تخف منها، ولها علاج.

وأما أضغاث الأحلام فهي مجريات الحياة التي تحدث عليك في النهار، كأن ترى الطريق وفيها سيارات تذهب وتجيء، ووقوف عند الإشارة، وأن ترى الناس يخرجون من المدارس، وأن ترى أطفالاً أمامك، وأن ترى بقالات مفتوحة أمامك، هذه مجريات الحياة، ليس فيها أمر زائد ولا ناقص، ولا يتطلب منك الأمر أن تسافر إلى الرياض إلى سماحة العلماء، وتقول: رأيت البارحة كأن سيارة تمشي في الخط وتقف عند الإشارة، فما هي تعبير رؤياي هذه؟ أفتوني مأجورين.

فهذه أمور مجريات.

والشاهد: أن ابن عمر قال: فتمنيت أن أرى رؤيا، قال: فرأيت في المنام كأني في حديقة خضراء، وكأن عندي قطعة من إستبرق أو من حرير لا أشير إلى مكان إلا أخذتني هذه القطعة إلى ذلك المكان، قال: وإذا برجلين اثنين أخذاني بيدي؛ أحدهما باليمنى والآخر باليسرى، فأخذاني إلى بئر مطوية، لها قرنان -أي: ما يوضع عليها العجلة-، قال: فنظرا إليها فقالا لي: لا ترع لا ترع -وفي لفظ: لَمْ تُرَعْ لَمْ تُرَعْ، أي: لا تخف- قال: فأتيت فذهبت إلى أختي حفصة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لا يستطيع ابن عمر من جلالة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن مهابته وعظمته أن يقص عليه الرؤيا؛ لأنه رجل شاب، والشاب دائماً عرضة للخجل والحياء، والرسول صلى الله عليه وسلم ما أخذ هيبته وما أخذ جلالتة بالجبروت؛ لا، فإنه كان أشد الناس تواضعاً وأسهل الناس وأيسرهم، يقف مع الطفل، ومع العجوز، لكن وضع الله عليه من المهابة ما الله به عليم، والشاب من عادته ألا يتجرأ على السؤال والحديث، حتى في الصحيحين يقول ابن عمر: {كنت جالساً مع قوم من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام وقد أتي بِجُمَّار -أي: أتي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بِجُمَّار- وهو قلب النخلة الأبيض، فمكث صلى الله عليه وسلم برهة ثم التفت إلى أصحابه، فقال: شجرة لا يسقط ورقها؛ مثلها مثل المؤمن! أخبروني ما هي؟ قال ابن عمر -صاحبنا هذه الليلة-: فوقع في قلبي أنها النخلة، فاستحييت أن أذكرها للرسول صلى الله عليه وسلم وفي القوم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي} هؤلاء الأجلة أهل بدر، وأحد، وأهل منائر الإسلام، وأهل المنابر، وأهل عتاق المذاكي، وأهل السيوف، وأهل قيام الليل، وعلماء الأمة، وحُفَّاظ التاريخ بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فاستحيا أن يتقدم ويقول: هي النخلة، {قال: فوقع الناس في شَجَر البوادي، أحدهم يقول: الطرفاء، وأحد يقول: السمر، وأحد يقول: السلم، وأحد يقول: الطلح، فلما انتهوا قال صلى الله عليه وسلم: هي النخلة، قال: فذهبت إلى البيت مع أبي، فقلت: يا أبتاه! لقد علمت بالشجرة التي حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنها النخلة، فقال عمر: والذي نفسي بيده لوددت أنك أخبرت الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن لي بها كذا وكذا، وعَدَّ أموراً وأموالاً من الدنيا} يقول: لماذا تأخرتَ بالجواب وهذا وقت المبارزة، وأريد أن تبدي قوتك وذهنك وفهمك عند الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لكنه استحيا!

ونعود إلى رؤياه رضي الله عنه، قال: {فقصصتها على حفصة، فقصتها على الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: نِعْمَ الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل} قال نافع مولى ابن عمر تلميذه الكبير: [[فكان ابن عمر لا ينام من الليل إلا قليلاً، حتى إذا سافر في الصحراء كان يصلي ويقول: يا نافع، هل طلع الفجر؟ فأقول: لا، ما طلع، فيعود فيصلي، فيقول: هل طلع؟ فأقول: لا، فيصلي، فإذا قلت: طلع أوتر بركعة ثم صلى الفجر]].

<<  <  ج:
ص:  >  >>