للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

المسجد منتدى أدبياً

استقبل عليه الصلاة والسلام في المسجد الشعراء، فجعل صلى الله عليه وسلم من المسجد روضة للأجر والثواب، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح}.

وقال في الصحيح عليه الصلاة والسلام: {ما جلس مؤمن ينتظر الصلاة في مصلاه إلا كان في صلاة تقول له الملائكة: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث}.

ويقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم من حديث جابر: {أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهراً يغتسل منه كل يوم خمس مرات، أيبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: كذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا والذنوب}.

ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: {ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط}.

قال الحسن البصري: [[أيها المؤمن! لن تعدم المسجد إحدى خمس فوائد أولها: مغفرة من الله تكفر ما سلف من الخطيئة، وثانيها: اكتساب رجل صالح تحبه في الله، وثالثها: أن تعرف جيرانك فتتفقد مريضهم وفقيرهم، ورابعها: أن تكف سمعك وبصرك عن الحرام، وخامسها: أن تسمع آية تهديك]].

{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:٥٢] كان المسجد في عهده صلى الله عليه وسلم منبراً للخطابة، وإحياء الكلمة المؤثرة.

إن أفصح من تكلم بالضاد هو محمد عليه الصلاة والسلام، وهو الذي يجيد حبك الكلمات صلى الله عليه وسلم.

ومن معجزاته البلاغة، رجل عاش بين جبال مكة، لا قرأ ولا كتب ولا تتلمذ ولا دخل كتاتيب، ولا درس على يد شيخ، ولا جامعة، ولا مدرسة، ثم يخرج للتاريخ وللعالم وللدهر بعد أربعين فيتكلم بأفصح عبارة أليس هذا هو العجب العجاب؟! يقول صلى الله عليه وسلم: {ألا إني أوتيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصاراً} وفي حديث عمرو بن العاص قال: {أوتيت مفاتيح الكلم وخواتمه} يقول أهل العلم، من علماء الحديث وذكره السباعي في السنة ومكانتها في التشريع يقول: إن من ميز علم الحديث عند أهل السنة أنه لا يستطيع أن يقول العبارات إلا الرسول عليه الصلاة والسلام، مثل حديث: {إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ مانوى} من يستطيع أن يقول مثل هذه العبارة، حديث: {احفظ الله يحفظك} حديث: {اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها} لا يستطيع ذلك إلا هو عليه الصلاة والسلام.

بالله لفظك هذا سال من عسل أما قد صببت على أفواهنا العسلا

أم المعاني اللواتي قد أتيت بها أرى بها الدر والياقوت متصلاً

إذاً: ومن مهمة المسجد في عهده عليه الصلاة والسلام أنه نادٍ أدبي، يؤمه رواد الشعر وأبطال القافية، مع أنه للعبادة وللخطابة ولاستقبال الوفود، جعله نادياً أدبياً يتحرر فيه الإنسان من قيود النثر أحياناً، وينطلق مع النظم، كان صلى الله عليه وسلم يقرب المنبر لـ حسان، ويقول: {اهجهم وروح القدس معك} وكان صلى الله عليه وسلم يقول لـ حسان بجانب المنبر: {كيف أنت وكفار قريش، أي كيف الهجو؟ قال: معي -يا رسول الله- لسان لو وضعته على حجر لفلقه، ولو وضعته على شعر لحلقه} ثم ينطلق بالقافية.

وعند البخاري: أن عمر رضي الله عنه مر بـ حسَّان وهو ينشد بالمسجد فلحظ إليه، فغضب حسَّان وقال: كنت أنشد وفيه من هو خير منك، أي: رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال أبو هريرة: نعم.

يؤكد ذلك.

ووقع في عهده عليه الصلاة والسلام حوار أدبي ومفاحمة بين بني تميم وبين حسان، وفدوا سبعة وقيل: ثمانية، معهم الزبرقان بن بدر، وحدث هناك صراع في حلبة الشعر، وغلب وانتصر الرسول عليه الصلاة والسلام في المسجد، وغلب خطيبه خطيبهم في المسجد، وانتصر عليه الصلاة والسلام في عالم الأدب كما انتصر في عالم الشجاعة في الميدان.

<<  <  ج:
ص:  >  >>