للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[استدعاء النبي صلى الله عليه وسلم المتهمين في نشر حادثة الإفك]

وبعد أن وقف عليه الصلاة والسلام فقرأ الآيات وقرأ براءة عائشة، استدعى الذين خاضوا في حديث الإفك، المسلمون منهم، أما المنافقون فلم يستدعهم صلى الله عليه وسلم كـ عبد الله بن أبي ابن سلول ما أدبه ولا جلده ولا عزره ولا حبسه ولا فعل به شيئاً؛ لأنه منافق، والجلد لا يطهره.

أما حسان بن ثابت فإنه مسلم صادق لكنه تكلم بكلام فاستدعاه الرسول صلى الله عليه وسلم فضربه ثمانين جلدة ليطهره، وهو طاهر لأن (الماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث) وماء حسان فوق القلتين فمهما ألقي في ماء حسان فهي نجاسة بسيطة تنزح، مثل ما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ببئر بضاعة أن تنزح لتطهر فنزحت.

أما عبد الله بن أبي فلو نزحت بحوره وأنهاره ما تطهر أبداً، ولو جلد ملايين الجلدات ما أغناه ذلك من عذاب الله شيئاً فـ حسان استدعاه الرسول صلى الله عليه وسلم، فأعطاه حسابه في الدنيا رضي الله عنه، شاعر الإسلام، حتى عمي في آخر عمره فأدخل على عائشة، فقال لها أحد الصحابة: تدخلين هذا الأعمى عليك وهو الذي قال فيك، وقال وقال؟ قالت: اسكت، فإني سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو له ويقول: {اهجهم وروح القدس معك} فكان يأتي بالقصائد كأنها قاصفات الرعد على المشركين، وفي رواية البخاري التي أوردتها تقول عائشة: كيف لا أدخله وهو الذي يقول في الرسول صلى الله عليه وسلم:

فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء

يقول للمشركين: أبي ووالده أي: جدي، وعرضي أقي به الرسول صلى الله عليه وسلم منكم، وهي من قصيدته اللامعة المشهورة التي حفظها المسلمون، وهي التي يتوعد بها كفار قريش قبل الفتح، يقول قبل الفتح:

عدمنا خيلنا لم تروها تثير النقع موعدها كداء

وكداء جبل في مكة، يقول: ليت خيلنا لا تعود إلينا إذا ما صبحناكم بالخيل وفتحنا مكة إن شاء الله ثم يقول:

تظل جيادنا متمطرات تلطمهن بالخمر النساء

يقول: تأتي خيولنا وتخرج نساؤكم -يا مشركون- فيلطمن خيولنا بالحجاب ويفر رجالكم ثم يقول:

فإما تعرضوا عنا اعتمرنا وكان الفتح وانكشف الغطاء

وإلا فاصبروا لجلاد يوم يعز الله فيه من يشاء

وقال الله قد أرسلت جنداً هم الأنصار عرضتها اللقاء

ألا أبلغ أبا سفيان أني مغلغله وقد برح الخفاء

هجوت محمداً فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء

أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء

فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء

يوم فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال أهل السير بأساليب جيدة: خرجت خيل ابن الوليد وهو مع الرسول صلى الله عليه وسلم، خرج من السرية أو من الخندمة فاتحاً، فخرجت نساء مكة بالخمر يضربن خيل خالد على وجهها، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم ويقول لـ أبي بكر وهو بجانبه كيف يقول حسان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يحفظ الشعر: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:٦٩] كان إذا حفظ البيت كسره لأنه لو حفظ الأشعار، لاتهمه الكفار أنه شاعر، ومع أنه لا يقول الشعر إلا أن الكفار اتهموه أنه شاعر: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان:٥ - ٦] مرة حفظ الرسول صلى الله عليه وسلم بيتاً لـ عباس بن مرداس، يقول عباس يعاتب الرسول صلى الله عليه وسلم في القسمة:

أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع

فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يردد ما قاله ابن مرداس فقال:

أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة

فتبسم أبو بكر وقال: صدق الله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:٦٩].

يوم اخترق الخندمة وفر عكرمة وفر رجل منهم كان يناوئ خالداً ويقول: أذبح بسيفي محمداً، فلما أتى خالد لقنه درساً لن ينساه، اشتغلهم أبو سليمان تسع ساعات بيده ففروا من طريقه، وتكسرت السيوف على ظهورهم فدخل هذا الرجل على زوجته وأغلق الباب، وهو يرتعد فقالت زوجته: أين سيفك؟ قال: ما أغنت عنا السيوف.

إنك لو شهدت يوم الخندمة إذ فر صفوان وفر عكرمة

يقول: إذا كان السادات والأبطال فروا! فكيف بمن دونهم؟ وأنا لما رأيت السادة والقادة فروا، فررت أنا، لأن الجندي يعذر إذا فر القائد فعليه أن يفر من باب أولى:

قال:

إنك لو شهدت يوم الخندمة إذ فر صفوان وفر عكرمة

أحد الناس ذهب إلى المدينة فوجد نيجيرياً في المسجد النبوي عنده مسبحة يسبح بها، يتمتم بشفتيه لكنه ما سمع التسبيح، فذهب الرجل فاشترى مسبحة، وذهب إلى جماعته في القرية فأخذ يتمتم، وهو لا يسبح، قالوا: يا فلان! ماذا تقول بهذه المسبحة؟ قال: أقول: الحقي أخواتك الحقي أخواتك، فالرجل هذا يسمع الناس يقولون: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وهو لا يعرف سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.

فيقول الرجل:

والمسلمون خلفنا في غمغمة يلاحقونا بالسيوف المسلمة

لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة

الشاهد من كلامي هذا أن حسان جلد ثمانين وكانت هي طهارته في الدنيا، وهو طاهر مطهر عند الله، وهو من الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ومن الأبرار عند الله، وشاعر الإسلام، والذي يدخل الجنة بلواء القوافي والأدب الإسلامي، ويدخل امرؤ القيس قائداً لأهل الشعر الملاحدة في النار ويدخل معه أهل الحداثة، فمن أراد أن يدخل الجنة فليدخل الجنة بلسانه أو بقلمه، أو بقوافيه وشعره أو بتأليفاته، أو بماله أو بقيام الليل أو بإطعام الطعام أو بصدقه مع الله أو بتضحيته، أو بأن يسكب دمه في سبيل الله، ومن أراد أن يدخل في مثل هذه الأمور النار فليدخل: {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} [الكهف:١٧] وكثير من الناس أتى الله لهم بمواهب، فدخلوا بها النار، حتى أن بعض الناس آتاه الله علماً فدخل بعلمه النار: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:١٧٥ - ١٧٦].

<<  <  ج:
ص:  >  >>