للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[جعل آدم خليفة في الأرض]

قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:٣٠] هذا حكمةٌ من حكم الله، أن يسكن الأرض آدم، لمقاصد منها: أن يعمر الأرض، كما قال تعالى: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:٦١] ومنها: أن يأتي من ذريته الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، والشهداء والعلماء، والصائمون والمصلون.

ومنها: أن يبتليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:٢] وقال: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:٢ - ٣].

ومنها: أن يظهر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى قدرته للعالمين، لأنه لا يكون الملك ملكاً -ولله المثل الأعلى- إلا إذا كانت له رعية يتصرف فيهم، يقتل هذا ويعفو عن هذا، ويعطي هذا ويولي هذا، ويعزل هذا، فإذا كان ملك بلا رعية، فعلام يكون ملكاً؟! فالله أراد أن يظهر سلطانه في الأرض وحكمته البالغة، وقدرته النافذة، ويظهر رحمته وعقابه فأتى بآدم.

ومنها: أنه أراد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يظهر غفرانه، وشديد عقابه، فإنه الغفور الرحيم، شديد العقاب، فكيف نعرف أنه غفورٌ رحيم إذا لم يغفر؟ أتأتي إلى ملك من الملوك فتقول: يا حليم وهو ما سبق له أن حلم عن أحد، وتقول: يا جواد، وهو ما سبق أن أعطى أحداً، وتقول: يا قوي، وهو ما سبق أن هزم جنداً، لا، لابد أن تظهر الأسماء والصفات في المخلوقين.

فهو الغفور الرحيم، فلذلك أذنب آدم فظهرت مغفرته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وأخرجه من الجنة فظهرت قدرته، وسلط الله على بعض عباده العذاب فظهر أنه شديد العقاب.

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} [البقرة:٣٠] هذا مجتمعٌ من الملائكة الأطهار، ومن حكمته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أنه لم يجعل الأرض من الملائكة، ولم يجعلهم من الجن، ولا من الحيوانات، الحيوانات شهوةٌ بلا عقل، والملك عقلٌ بلا شهوة، والإنسان عقلٌ وشهوة.

ابن آدم نفخةٌ من روح الله، وقبضة من التراب، ابن آدم إذا ارتفع بالصلاة والصيام والذكر وقيام الليل وطلب العلم والزهد، أصبح أفضل من الملائكة، وإذا خسئ بالحقارة والنذالة والمعصية، فشرب الخمر، وتناول المخدرات، وتخلف عن الصلوات، وسمع الأغاني الماجنات، وقرأ المجلات الخليعات، وعق الأمهات، وأغضب رب الأرض والسماوات، أصبح أحقر من البهيمة، قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:٤٤].

أتعرف الحمار؟ يصبح أذل منه {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:١ - ٨].

بلى، {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:١ - ٣].

{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:٧٠] فكرامة الإنسان يوم يكون عبداً لله

ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا

ذكر بعض المفسرين، أن الملائكة قالت: يارب! لو أنزلتنا في الدنيا ما عصيناك أبداً.

فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:٣٠].

فأنزل الله هاروت وماروت، وهما من الملائكة، فقال: انزلا، كان عندهما عقول، فآتاهما الله الشهوة مع العقل كما يؤتي الإنسان، فلما نزلا في الأرض جلسا في المحكمة يحكمون بين الناس خلفاء، فأتت امرأةٌ جميلة فتنت هاروت وماروت، فبقيت بهما حتى زنيا بها، وفي رواية فقتلاها، ولما قتلاها أتى الشيطان فقال: إنه لا يمكن إلا أن أخبر إلا أن تعبداني، فسجدا له، ولكن الصحيح أنها ليست في قصة هاروت وماروت، بل في قصة رجلٍ آخر، أما هاروت وماروت فوقعا في الزنا فقط، فخيرهما الله بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا، فنكسهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في بئر هاروت وماروت في العراق بأرجلهما.

والقصة ذكرها الذهبي بسندٍ ضعيف في سير أعلام النبلاء في ترجمة مجاهد، وذكرها كثيرٌ من المفسرين، ووصل مجاهد إلى هناك ليرى هاروت وماروت مع رجل يهودي، فقال له الرجل: لا تتكلم؛ فإنك إن تكلمت صعقت، قال: فذهبت فرأيت ملكين منكوسين بأرجلهما في بئرٍ مطوية، فقلت: سبحان الله خالقكما! قال: فصعقت فأغمي عليَّ وعلى الرجل، ثم أفقنا بعد حين فقال لي: أهلكتني وأهلكت نفسك.

ومن أراد أن يعود فليعد إلى الذهبي وغيره من العلماء، والمقصود من هذه الآية أن الله علم أنه لا يصلح للأرض إلا الآدميون.

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:٣٠] يخلف بعضهم بعضاً، وبعضهم يقول: معنى خليفة: آدم وحده، ولكن ليس بصحيح، والقرطبي يذهب إلى أن إقامة الخليفة واجب بهذه الآية، وفي استدلاله نظر! لأن الخليفة هنا هم من يخلف بعضهم بعضاً {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:٣٠] هنا قضايا:

منها: اعتراض الملائكة على الله عز وجل.

فالله يقول للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:٣٠] فتقول الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:٣٠].

وهذا ليس اعتراضاً على الله؛ فإنهم كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:٦] {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:٢٧].

وإنما أرادوا أن يُظْهِر لهم الحكمة، كأن طالباً يرى الأستاذ يكتب على السبورة جملة، فيقول: يا أستاذ! كيف تكتب هذه الجملة؟! وهذا ليس اعتراضاً على الأستاذ، ولكنه يقول: فسر لي المعنى وما هو المقصود.

ولله المثل الأعلى.

أتجعل فيها من يفسد فيها! عرف الملائكة أنه سيقع فساد في الأرض؛ لأنه قد عمرها الجن فترة فأفسدوا، فظنوا أن آدم سوف يكون هو وذريته كالجن، كما ذكر ذلك ابن كثير رحمه الله.

والإفساد هنا: بالفواحش والمنكرات والمعاصي والظلم، وسفك الدماء بغير حق.

ثم يقول: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:٣٠] أي كأنهم يشيدون بأنفسهم، ويقولون: نحن أولى، نحن أهل التسبيح، نسبحُ ونصلي لك، وقالوا: نقدسك ونستغفرك، وفي صحيح مسلم قال أبو ذر: {ما هو أحسن الذكر يا رسول الله؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته، سبحان الله وبحمده} وعند البخاري: {كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم}.

وفي الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: {من قال: سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة غفرت ذنوبه وإن كانت كزبد البحر} وفي صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: {لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس} وصح عند الترمذي قوله صلى الله عليه وسلم: {من قال: سبحان الله وبحمده، غرست له نخلةٌ في الجنة}.

<<  <  ج:
ص:  >  >>