للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تفسير قوله تعالى: (اللَّهُ الصَّمَدُ)

الصمد لها معانٍ عند أهل السنة من المفسرين، وغيرهم من اللغويين.

فقيل الصمد: هو الذي تصمد له الكائنات، أي: تحتاج له، وتتلهف له، وتتجه إليه، وتطلبه، من هو المستغني عن الله؟ من هو الآن الذي يعيش أو سوف يعيش وقد استغنى عن الله طرفة عين؟ هل تستطيع الدواب أو العجماوات أو الطيور أو الزواحف أو الملوك أو الكفرة أو التجار أن يستغنوا عن الله طرفة عين؟ {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:٢٩] يسمع دبيب النمل فيعافي ويشافي، وتُرْفَع إليه الحاجات، فلا يمنعه كفر الكافر أن يرزقه، بل يعافيه، ويعطيه، ويبتليه، ويشافيه، وهو كافر بالله، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:٦].

قال ابن الجوزي: ذهب بعض الصالحين، فرأى عصفوراً يأتي إلى نخلة فيقع عليها، كل يوم، فتعجب هذا الرجل الصالح، قال: العصفور ليس من عادته أن يعشعش في النخل، العصفور لا يبني عشه في النخل، لكنه يبني في الأرض، أو في الشجر القصير، فتسلق هذا الرجل الصالح إلى رأس النخلة، فوجد حية عمياء، نشبت في رأس النخلة، ليس لها طعام، فإذا احتاجت إلى أكل، أتى هذا العصفور بطعام ولحم، فإذا اقترب منها زقزق، ففتحت فمها، فألقى اللحم في فمها.

فمن الذي دَلَّ؟ ومن الذي عرَّف؟ ومن الذي {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:٥٠]؟

من الذي عَلَّم النحلة أن تذهب المسافات الشاسعة ثم تعود إلى مكانها، والعاملة تشتغل في بناء هذا البناء، ومنها الآخذة والطاعمة والشاربة.

من الذي عَلَّم النمل أنه سوف يمر فصل شتوي قارس البرد كثير الأمطار، لا تستطيع أن تخرج إلى الحب، فتعد وتحسب حسابها من فصل الصيف، فتدخر الحبوب في مخزونها، فإذا أتى الشتاء لا تخرج النمل، ثلاثة أشهر لا يخرج النمل إلا أحياناً؛ لأن عنده مكنون.

وأيضاً لا ينبت الحب في بيوتها كما قاله أهل العلم، وهذا من (مفتاح دار السعادة) لـ ابن القيم، قالوا: لماذا لا ينبت الحب الذي في بيتها؟ فقالوا: تأتي النملة إلى الحبة فتخرقها من وسطها، أو تفلقها فلقتين فتصبح غير قابلة للإنبات، ثم تكدسها، وهذه هندسة علمها الذي {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:٥٠].

ولذلك سوف أعيد وأكرر كثيراً هاتين المقولتين لموسى، فيقول بعض المفسرين: لله در موسى لَكَمَ فرعون على وجهه؛ لأن فرعون يقول: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:٤٩] قال: يا مجرم يا بليد يا حقير! {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:٥٠] أنت يا فرعون لما ولدتك أمك، من الذي هداك للثدي؟ فالطفل أول يوم يخرج من بطن أمه لا يعرف أحداً إلا أمه، فمن الذي هداه إلى أمه وإلى ثديها؟

ومن معاني الصمد: أي: السيد، أتى سعد بن معاذ على بغلةٍ فلما رآه الأنصار قاموا، قال صلى الله عليه وسلم: {قوموا إلى سيدكم} فقاموا، قيل في الصحيح: أقبل على حمار، وفي (السِّيَر) على بغلة، فأقبل على حمار مُنْكَأ الجراح، وكان عظيماً شديداً، اهتز له عرش الله، وقامت الملائكة بأقطاب العرش، تقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:١ - ٤].

فلما أقبل، قال صلى الله عليه وسلم: {قوموا إلى سيدكم} والقيام للسادة، إذا كان من باب الحب والاحترام فلا بأس به، أما إذا كان من باب التعظيم كالقيام على رأسه، فلا.

كان بعض الفضلاء جالساً فأتى عالم من العلماء أقبل كالفجر، فقام الأديب، فقال العالم: لا تقم، في القيام نظر، وهو مكروه، فقال الأديب:

قيامي -والإله- إليك حقٌ وترك الحق ما لا يستقيمُ

وهل رجل له لب وعقلٌ يراك تجي إليه ولا يقومُ؟

هل يوجد في الدنيا أحدٌ يراك تقوم مقبلاً إليه، ولا يقوم؟

قال: {قوموا إلى سيدكم} قال ابن عباس: [[السيد الذي كمل في سؤددُه، وعَظُم شرفُه والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كملت عظمته، والحليم الذي كمل في حلمه، والعليم الذي كمل في علمه، والحكيم الذي كمل في حكمته]].

وقال أحد الشعراء العرب، يمدح بعض السادة العرب، يقول:

ألا بَكَّرَ الناعي بخير بني أسدْ بـ عمرو بن مسعود وبالسيد الصمدْ

المعنى: فوجئنا قبل الفجر بالصائحة والنائحة والباكية، تبكي سيدين شريفين: عمرو بن مسعود، وبالصمد الآخر.

وكانت العرب تمدح الرجل الملك، فتقول: يا صمد! أي: يا مَن يُصْمَد إليه.

وعند أحمد في المسند من حديث المقداد بن الأسود، أن رسول صلى الله عليه وسلم كان إذا نصب سترة لا يصمد إليها، والحديث فيه: الوليد بن كامل، وهو ضعيف، وبعضهم يحسِّنه، ولكن الظاهر أنه ضعيف.

والمعنى -على فرض صحة الحديث- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يصمد للسترة صمداً، بل كان يجعلها على حاجبه الأيسر، أو حاجبه الأيمن.

فالذي يُصمد إليه هو الله.

والصمد له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على نوعين:

الأول: صمود خاص.

الثاني: صمود عام.

الصمود الخاص: صمود المؤمنين له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الضراء والسراء.

الصمود العام: صمود الكائنات فلا يستغني عن الله أحد.

قالوا للإمام مالك: ما دليل القدرة؟ والظاهر -والله أعلم- أن القائل هو هارون الرشيد -كما ذكر ذلك ابن كثير في التفسير- في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:٢١].

فقال هارون الرشيد لـ مالك: ما دليل القدرة يا مالك؟ قال: اختلاف اللهجات، وتعدد النغمات في شتى الحاجات أمام الواحد الأحد.

أما ترى الناس يوم عرفة يَتَكَلَّمون بأكثر من أربعمائة لغة على صعيد عرفة يتكلمون في ساعة واحدة إلى الحي القيوم، إلى من على العرش استوى، فيفهم لغاتهم، ويجيب طلباتهم، ولا يعييه سؤال عن سؤال، ولا إجابة عن إجابة، هذا يتكلم بالعربي، وهذا يتكلم بالإنجليزي، وهذا بالفرنسي، وهذا بالباشتو، وهذا بالأوردو، وهذا بالفارسي، وهذا بالأطلسي، وهذا بلغة عالمية، وهذا بمحلية، ومع ذلك كلهم يريدون الخير، ويصمدون إليه، فيجيبهم وهم في صعيد واحد.

أليس هو الصمد سبحانه؟! بلى.

وقال الحسن وقتادة: [[الصمد: هو الباقي بعد خلقه]].

الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:٤٠].

ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:٢٦ - ٢٧].

ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:٨٨].

فلا يموت سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

ولذلك يأمر عباده وأولياءه أن يتوكلوا عليه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:٥٨]؛ لأن غيره يموت.

تريد أن تتوكل على الذي يموت؟ لا.

توكل على الذي لا يموت سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

وقال الحسن: [[الحي القيوم: الذي لا زوال له]] فلا يزول ولا يحول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

يقول أحد الصالحين: سبحانك يا من لا يزول ولا يحول! سبحانك يا من يغير ولا يتغير! أي: يغير غيره ولا يتغير.

الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول لأعدائه وهو يُبَكِّتُهم وقد سكنوا في القصور: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} [إبراهيم:٤٥].

فهو يغير ولا يتغير، تعالى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

وقال الربيع بن أنس: [[هو الذي لم يلد ولم يولد]] فجعل تفسير الصمد الآية التي بعدها، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد السابع من الفتاوى: قيل لبعض العلماء: ما دليل قدرة الله؟ قال: دليل قدرة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى نَقْضُ الهمم، وإماتة العزائم.

من الذي ينْقُضُ هِمَّتَك؟ إنه الله، تهم بالشيء، وتجزم أن تفعله، وتقسم أن تفعله ثم ينقض همتك، ويشتت عزيمتك.

وقيل للإمام أحمد كما في تفسير ابن كثير: ما دليل القدرة؟ قال: بيضة الدجاجة، أما سطحها ففضة بيضاء، وأما باطنها فذهب إبريز، تفقس، فيخرج منها حيوان سميع بصير، ألا يدل على السميع البصير؟ بلى.

وللعلماء عن القدرة كلام، ففيها أمور عظيمة لا يَفِي المقام ببسطها، وليس هناك مجال لعرضها.

وقال عكرمة: يقول ابن عباس: [[الصمد هو الذي لا جوف له]].

فتَصْمُد له الكائنات، وتسأله المخلوقات، بشتى اللغات، وبتنوع الحاجات، على مر الأوقات، والأزمان في الأرض والسماوات.

فلا يعييه شيءٌ عن شيء.

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في كتاب السنة بعد إيراد كثير من هذه الأقوال: إن الصمد هو الذي يصمد إليه الناس في حوائجهم الظاهرة والباطنة، وإذا أمرٌ لم يسهله الله عز وجل لم يتسهل.

يقول الشاعر:

إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده

فالاجتهاد مع عدم التوفيق لا خير فيه ولا فلاح، والخيبة والخسران من نصيبه.

قالوا: الصمد: أي: الذي انتهى سؤدده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وعظُم.

وقيل: الصمد: الذي لا جوف له، ولا يأكل ولا يشرب، وقد اختاره البيهقي مع بعض العلماء.

<<  <  ج:
ص:  >  >>