للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تقبل الصحابة للعقيدة بلا اعتراض]

القاعدة الثالثة: الصحابة تقبلوا العقيدة بلا اعتراض وفهموها بلا إشكال, وعملوا بها بلا توقف! فالرسول عليه الصلاة والسلام لما قرأ على الناس قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] لم يقل صحابي: يا رسول الله كيف استوى؟ إلى أن أتى آخر القرن الثاني، فقام بعض الناس من الذين لبس عليهم من العجم فدخلوا مدسوسين في البلاد الإسلامية وقالوا: كيف استوى؟! وهذا يلزم تجسيمه، وهذا يلزم أن يشغل حيزاً، وهذا يلزم أن يخلو عنه المكان إذا نزل في الثلث الأخير، قلنا: الله حسيبكم! الرحمن يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] مالكم ما سلمتم كالصحابة؟ هل قام أبو بكر وقال: كيف استوى؟ أو قام عمر وقال: هل ينزل إذا استوى؟ سبحان الله!

لا تقل كيف استوى كيف النزول أنت لا تعرف من أين وكيف تبول

هذا أحد علماء السنة يقول للمناطقة: أنت لا تعرف تكوينك: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:٢١] لا تعرف كيف تنام، ولا كيف تصحو, فكيف تسأل أسئلة فوق عقلك؟!

قال الشافعي في كلمة حفظت عنه رضي الله عنه وأرضاه، وهي تكتب بماء الذهب: "آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراد رسول الله", هذا هو المطلوب من المسلم.

يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:٦٤] تليت هذه على الصحابة كـ ابن مسعود ومعاذ وسهل وجابر وعمر وعثمان فأثبتوا لله يدين تليقان بجلاله سُبحَانَهُ وَتَعَالى بلا تمثيل ولا تشبيه، ما أولوها بالنعمة بل قبلوها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عربي والقرآن عربي وهو يتكلم بلغتهم, ولو أراد الله أن يقول نعمة، لقال: نعمة، لأن النعمة لا تثنى ولا توصف بمبسوطتين، بل قال: يدان مبسوطتان.

والشاهد هنا أنهم سلموا بلا اعتراض, وعملوا بلا توقف, وفهموا بلا إشكال.

يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي مر معنا: احتج آدم وموسى, قال آدم لموسى: وكتب الله لك التوراة بيده، فأقر موسى واعترف ولم ينكر, والصحابة لم يقولوا كيف كتب وبأي قلم, هل هو بقلم رصاص أم بأحمر؟! هل كتبه في دفتر أو في كتاب؟ كيف كتب؟! سبحان الله! لا نشبهه ولا نمثله ولا نعطله ولا نؤول صفاته: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:١١].

في الصحيحين وعند النسائي وابن ماجة وأحمد في المسند قال عليه الصلاة والسلام: {يضحك ربك إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة} يقتل أحدهما الآخر, فيدخل الشهيد المسلم الجنة، ثم يتوب الله على القاتل فيقاتل في سبيل الله فيستشهد فيدخلان الجنة فيلتقيان في الجنة، يقول: أنت أدخلتني الجنة، جزاك الله خيراً قطعت رأسي في الدنيا وأدخلتني الجنة، فالله عز وجل يضحك لهذين.

ماذا قال الصحابة لما تلي عليهم هذا الحديث، هل التفت بعضهم لبعض؟ بل قالوا: آمنا وسلمنا، فهم قد رضوا بالرسول عليه الصلاة والسلام وانتهى الأمر، وبعض المبتدعة يقول: يضحك أي: يرضى، قلنا: سبحان الله! أيعجز النبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد الفصحاء أن يعبر بلفظة (يرضى) بدلاً عن (يضحك) وهو أعلم بمعناها؟ وهل الرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم بين عجم؟ إنه يتكلم في عرب, وأنا لا والله لا أنقص في شأن أحد، فالعجم إخواننا وأحبابنا وهم قد يكونون بالتقوى أفضل منا, وليس عندنا دم ولا عنصرية ولا لغة، فـ سلمان أعجمي وبلال أعجمي وصهيب أعجمي والبخاري أعجمي والترمذي أعجمي وهم إخواننا وأصحابنا، بل سادتنا وعظماؤنا: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:١٣] لكن في المسألة هذه أقول: الرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم بالعربية فيقول: {يضحك ربك} فلم يعترضوا بل سلموا وعرفوا معنى يضحك.

وعند النسائي وأحمد بسند صحيح، قوله عليه الصلاة والسلام: {يعجب ربك من رجل يرعى غنمه برأس شظية يؤذن ويقيم يقول الله عز وجل: يا ملائكتي أشهدكم أني غفرت له وأدخلته الجنة} بدوي مسلم يرعى غنمه في جبل ما عنده إلا الله، ما هناك هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا محاسبة ولا شرطة ولا حرس، ولما حانت الصلاة توضأ وقام في رأس الجبل يرفع صوته: الله أكبر الله، أكبر الله أكبر، الله أكبر، الله من فوق سبع سماوات يعجب من هذا, فهذا إيمان خالد وإيمان ثابت ويجازيه بأن يغفر له ذنوبه ويدخله الجنة.

في صحيح البخاري قال أبو سعيد لـ ابن أبي صعصعة: {إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة فارفع بالنداء فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهدوا له يوم القيامة، قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم}.

ذكر ابن كثير أن جرير بن عطية الشاعر الخطفي صاحب القصائد المشهورة التي من ضمنها:

إن العيون التي في طرفها حور فتلننا ثم يحيين قتلانا

أذن في الصحراء ثم توفي بعد فترة فرئي في المنام وقيل له: "ماذا فعل الله بك؟ قال: غفر الله لي، قالوا: بماذا؟ قال: أذنت في الصحراء وحدي وأقمت فغفر الله لي بذلك" والشاهد هنا (كلمة يعجب) فلم يقل الصحابة: يا رسول الله كيف يعجب! وإنما سلموا وآمنوا بأنه عجب يليق به سُبحَانَهُ وَتَعَالى، بلا تشبيه ولا تمثيل.

قام عليه الصلاة والسلام في بدر -والحديث صحيح- فقال: {يا أهل بدر إن الله اطلع عليكم، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم} لم يقولوا: قالوا كيف اطلع؟ ثم قال عليه الصلاة والسلام: {يا أهل بدر والذي نفسي بيده ما بينكم وبين الجنة إلا أن يقتلكم هؤلاء فتدخلون الجنة}.

سمع ذلك عمير بن الحمام وكان عنده تمرات لكنه صاحب عقيدة، فهم الحديث لأنه عربي يسمع، فرمى بالتمرات وكان يأكلها من جوع وقال: {يا رسول الله! ما بيننا وبين الجنة إلا أن يقتلنا هؤلاء، قال: إي والذي نفسي بيده، فألقى التمرات وقال: والذي نفسي بيده إنها لحياة طويلة إذا بقيت حتى آكل هذه التمرات} فتقدم فقاتل حتى قتل وانتقل, إلى رحمة الله, إلى جنة عرضها السماوات والأرض، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:١٦] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:٢٣].

<<  <  ج:
ص:  >  >>