للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[القائلون بوجوب صلاة الجماعة وأدلتهم]

ورد الجمهور من الفقهاء والمحدثين والمحققين على القائلين بسنية صلاة الجماعة بثمانية أدلة كلها من الكتاب والسنة، وقالوا: بل إن صلاة الجماعة واجبٌ أوجبه الله عز وجل، وأوجبه رسوله صلى الله عليه وسلم على كل مسلم ليس له عذر.

الدليل الأول: استدلوا بقوله تبارك وتعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:٤٣] ومعنى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:٤٣] أي: صلوا مع المصلين، فهو من ذكر الشيء ببعض سببه، وإلا فالمعنى: فصلوا مع المصلين واركعوا مع الراكعين، وإلا لقال عزَّ من قائل: واركع مع الراكع، ولكن قال: مع الراكعين.

الدليل الثاني: واستدلوا من القرآن أيضاً بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء:١٠٢] وهذه في صلاة الخوف.

فقال الإمام أحمد ومعه ابن تيمية وابن القيم: ما دام الله عز وجل لم يعذر الناس في ترك صلاة الجماعة والسيوف على رءوسهم والرماح تأخذ من أجسامهم وأجسادهم، فكيف يعذرهم وقت الأمن والراحة؟! هذا لا يدخل في المعقول أبداً.

الدليل الثالث: واستدلوا على ذلك بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ} [النور:٣٦] ولم يقل (رجل): {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:٣٧].

الدليل الرابع: واستدلوا بقوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة:١٨] فمن لم يعمر مسجد الله وبيت الله، فلا يؤمن بالله واليوم الآخر.

الدليل الخامس: واستدلوا بالحديث الماضي -وهو متفق عليه- وهو قوله عليه الصلاة والسلام: {والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام -وفي لفظ: فأخلِف رجلاً يصلي بالناس- ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون الصلاة معنا فأحرق عليهم بيوتهم بالنار ,والذي نفسي بيده لو يجد أحدهم عرقاً سميناً أو مرماتين حسنتين الحديث} والمرماتين: قيل: صفيحة الشاة، وقيل: كتفها، وقيل: هو بين الساعد والعضد، والحاصل أنه عضو من الشاة.

يقول عليه الصلاة والسلام: والله لو أن هؤلاء المتخلفين عن المسجد يجد أحدهم قطعة من اللحم لأتى إلى الصلاة وإلى المسجد ليأكلها، أو دعي لمكان فيه وليمة لحضر؛ لأنه يريد العاجل من الدنيا وشبع بطنه.

فكيف يضيع الأجر العظيم عند الله؟ وهو علامة النفاق، فمن تخلف عن أجور الآخرة وأتى لأجور الدنيا فهذا من علامة النفاق.

الدليل السادس: واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد وأبو داود -وهو حديث صحيح- عن أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما من ثلاثة في قرية أو في بادية لا يصلون جماعة إلا استحوذ عليهم الشيطان} رواه أبو داود ورواه الإمام أحمد وسنده صحيح.

الدليل السابع: واستدلوا كذلك بقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لينتهينَّ أناس عن ودعهم الجمع والجماعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين}.

الدليل الثامن: ومن أدلتهم أيضاً: ما في صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال: {إن الله عز وجل فرض على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم سنن الهدى وإن الصلاة من سنن الهدى، ولو أنكم تخلفتم كما يتخلف هذا المنافق في بيته؛ لخالفتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، ولو خالفتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم لهلكتم، والذي نفسي بيده، لقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين من المرض حتى يقام في الصف} وهذا المكان في عهد الصحابة رضي الله عنهم.

ومن أدلتهم أيضاً: ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما، يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من سمع النداء ثم لم يجب فلا صلاة له إلا من عذر} روى هذا الحديث أبو داود في سننه، وابن ماجة في سننه، وابن حبان في صحيحه، وقال عبد الحق الأشبيلي الأندلسي: سند هذا ما وراءه في الصحة سند.

وقد قبل شيخ الإسلام هذا الحديث في المجلد الثالث والعشرين من الفتاوى وصححه، وقبله ابن القيم، وقبله الحفاظ، وصححه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وهو حجة في أن من ترك صلاة الجماعة فلا صلاة له إلا من عذر.

وفي سنن البيهقي وهي من أدلة الجمهور، قول علي رضي الله عنه وأرضاه: [[لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد]] وبعض العلماء يرفع هذا الحديث إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وبعضهم يوقفه على علي، والصحيح أنه موقوف.

واستدلوا على ذلك بما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: {جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعمى -وفي غير رواية مسلم أنه عبد الله بن أم مكتوم - فقال: يا رسول الله! إني شاسع الدار -أي: بعيد الدار- وبين داري والمسجد هوام وسباع وواد مسيل وليل، وليس لي قائد يلائمني، فهل تجد لي من رخصة؟ فرخص له صلى الله عليه وسلم، فلما ولى دعاه، قال: أتسمع النداء؟ -وفي رواية صحيحة: أتسمع حي على الصلاة حي على الفلاح؟ - قال: نعم.

قال: أجب فإني لا أجد لك رخصة}.

وقال ابن عمر كما عند البيهقي بسند جيد: [[كان الرجل إذا تخلف عن صلاة الجماعة اتهمناه في دينه]].

فالذي يتخلف عن صلاة الجماعة في المسجد وليس له عذر فهو متهم في دينه بلا شك، لما روى الترمذي بسند تكلم فيه أهل العلم؛ لوجود دراج بن أبي السمح وهو رجل ضعيف، قال: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من رأيتموه يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان} فمفهوم المخالفة في الحديث أن من لا نراه يعتاد المسجد فلا نشهد له بالإيمان.

وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان أخشى الخلق لله، وأخوفهم لله فلم يترك صلاة الجماعة إلا من مرض أسقطه على فراشه خمس مرات، كلما وثب ليتوضأ سقط على فراشه من الإعياء، فلم يترك جماعة في حياته أبداً عليه الصلاة والسلام، وكان الصحابة بعده يتعاهدون الصلاة جماعة، فإذا تخلف الرجل سألوا عنه، فإما أن يكون معذوراً، وإلا فإنه معلوم النفاق، ويشهدون عليه بالنفاق.

ولذلك كان من أعظم الأعمال في الإسلام -أعظم من الجهاد، وأعظم من الصدقة، وأعظم من أن تهراق الدماء في سبيل الله، وأعظم من أن ينفق المرء ما له غِلقا غِلقاً في سبيل الله، وأعظم من أن يذهب كل ما عندك في طاعة الله- المحافظة على الصلوات الخمس في المسجد.

يقول عليه الصلاة والسلام كما عند مسلم عن أبي هريرة: {ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط} قالوا: الرباط هو أعظم درجات الإحسان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران:٢٠٠] فأعلى درجات الإحسان في الإسلام الرباط في المسجد.

<<  <  ج:
ص:  >  >>