للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[معجزات الرسل من جنس ما أبدع فيه أقوامهم]

{وَإِنْ كُنْتُمْ} يا أيها الناس! ويا أيها العرب العرباء!

فالله عز وجل يتحدى الناس والأجيال بما أجادوا فيه من العلم، كل علم يجيدون فيه أو فن يتحداهم به.

فموسى عليه السلام أتى إلى قوم معهم السحر، فقد بلغوا في السحر الذروة، فأعطاه الله العصا، فتلقفت ما صنعوا، وأخذت حتى عصيهم وحبالهم، فأكلتها جميعاً في بطنها، فتغلب عليهم.

وإبراهيم عليه السلام أتى إلى قوم بلغوا الذروة في علم الفلك والنجوم، فتحداهم بذلك، فأعجزهم وأربى عليهم.

وعيسى عليه السلام أتى إلى قوم أهل طب، وتخصص، فأعطاه الله إحياء الميت بإذنه، وإبراء الأكمه بإذنه فيبصر، وإبراء الأبرص بإذنه فيذهب مرضه.

ومحمد عليه الصلاة والسلام أتى إلى العرب العرباء، وهي أفصح أمه أخرجت للناس، العربي البدوي في خيمته تخرجه فيلقي خطبة طنانة رنانة، لا يلحن فيها، ولا يتلعثم، ولا يخطئ، ولا ينسى، فيأتي من عند شاته وناقته، فيلقي قصيدة تقارب مائتي بيت أو مائة بيت، كلها على نسج رفيع، وليس عنده قلم ولا ورقة، يحفظها في ذهنه كأنها قذائف، فأتى صلى الله عليه وسلم إلى مجتمع من أفصح المجتمعات، فأعطاه الله القرآن، فقال صلى الله عليه وسلم: تعالوا، هذا القرآن، وأنتم أفصح العرب وأفصح الناس، وأنتم أفصح أهل الدنيا، هذا هو القرآن فأين شعراؤكم؟

هذا هو القرآن فأين خطباؤكم؟

هذا هو القرآن فأين فصحاؤكم؟

ولذلك لم يسمع أنهم أرادوا أن يتحدوا القرآن، لكن بهتوا!!

يقول جبير بن مطعم بن عدي -أبوه المطعم بن عدي هو الذي أجار الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، وقد مات كافراً- حتى يقول عليه الصلاة والسلام في أسارى بدر: {والذي نفسي بيده! لو كان المطعم بن عدي حياً لتركت هؤلاء النتنى له} أي: عفوت عنهم، ابنه جبير هذا يقول: أقسمت باللات والعزى لا أسلم ولا أومن بمحمد أبداً، لكن القرآن -كما يقول سيد قطب وغيره- نفّاذ، فينفذ ويخترق الجدران.

فلذلك أقسم ألا يؤمن، ولا يسلم، ولا يشهد أن لا إله إلا الله!! والرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة يصلي بالناس صلاة المغرب، فأتى بناقته، فسمع صوت الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان في صوته صحالة، وفيه قوة ونبرة تصل إلى القلوب مباشرة، يقرأ: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} [الطور:١ - ٤] قال: [[فو الله لقد كاد قلبي أن يطير]].

الطفيل بن عمرو الدوسي الزهراني الذي أبو هريرة حسنة من حسناته، وتلميذ من مدرسته، سمع أن الرسول عليه الصلاة والسلام بعث، فارتحل بناقته من بلاد زهران، سبحانك يا رب! تأتي بـ سلمان من بلاد فارس، ومن كرمان، وتأتي بـ الطفيل من زهران، وتأتي بـ صهيب من بلاد الرومان، وتأتي بـ بلال من الحبشة السودان، ويسلمون ويؤمنون ويدخلون الجنة، وأبو لهب وأبو طالب عند الركن والحطيم يتردون في نار الجحيم.

عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عالٍ من الأطم

فأتى الطفيل بن عمرو الدوسي وكان شاعراً مجيداً خطيباً يعرف الكلام، عاقلاً، داهية، فركبت ناقتي وسمعت بمبعث رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: فو الله ما إن نزلت مكة، إلا وتعلقت قريش بناقتي.

كلما أتى إنسان من خارج قريش تعلقوا بناقته، يقولون له: انتبه عندنا رجلٌ مجنون! معنا ساحر في هذا المكان! رجلٌ جالس في الحرم معتوه، يتكلم بلا عقل، فانتبه واحذر!!

قال: فوالله ما زالوا بي حتى أخذت القطن، فوضعته في أذني.

لكن القرآن أقوى من القطن، فهو يدخل ولو كان في الأذن قطن، فيصل إلى القلوب، قال: فدخلت؛ فرأيته في الحرم ما أراه إلا ساحراً أو كاهناً، وهذا الفعل من الدعايات الرخيصة، والشائعات المغرضة، جعلت من الرسول عليه الصلاة والسلام ساحراً وشاعراً، والله يقول: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:٢٢].

ويقول: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم:٤ - ٨] فكان ينظر إليه، فقال: فكنت أسمعه يقرأ فلا أسمع شيئاً، فالقطن في الأذن ولكن الله يهدي من يشاء، قال: فما زلت أقترب، فقلت في نفسي: -أراد الله هدايته- لماذا لا أضع القطن، وأنا رجل، لبيب، فاهم، شاعر، أعرف جد الكلام من هزله، فإن سمعت شيئاً أعجبني اتبعته، وإلا تركته! قال: فوضعت القطن، ويوم وضع القطن في تلك اللحظة وإذا بالقرآن يصل إلى أذنه، ويدخل إلى قلبه، فينتفض ويأتي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، ويضع يده ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.

فهو القرآن الذي يريد الله أن يوصله إلى الناس.

<<  <  ج:
ص:  >  >>