للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[معنى قوله تعالى: (والعصر)]

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.

عنوان هذه المحاضرة: (سورة العصر منهج حياة).

سورة العصر الموجزة القصيرة منهج حياة للمسلمين، سورة العصر قليلة الكلمات لكنها دستور حياة لمن أراد الله والدار الآخرة، سورة العصر وأمثالها تعلن التحدي على الكافر والملحد أن يأتي بمثل هذه السورة {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة:٢٣].

يا عرب! يا فصحاء! يا أدباء! يا نبلاء! يا خطباء! يا علماء! دونكم الكلام، عندكم الحروف، لديكم المادة، تعالوا بمثل هذه السورة إن كنتم صادقين، انظموا مثل هذا الكلام، اخطبوا بمثل هذه العبارات، هذا تحدىٍٍ من الله سافر للناس أجمعين، ولن يأتوا بمثله أبداً ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، لا يستطيعون أبداً أن يأتوا بمثل القرآن ولا أن ينسجوا على منوال القرآن، ولا أن يختاروا مثل عبارات القرآن.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:١ - ٣].

سورة العصر منهج حياة، قال الشافعي رحمه الله: لو لم ينزل الله عز وجل على الناس حجة إلا هذه السورة لكفتهم.

وذكر بعض المفسرين كـ ابن أبي حاتم: أن الصحابة كانوا إذا التقوا قرأ بعضهم على بعض سورة العصر.

لكن ما معناها؟ وما هي دروسها، وعبرها، ومقاصدها؟ هو الذي نريد أن نتحدث عنه بعون الله في هذه الجلسة.

{وَالْعَصْرِ} [العصر:١] قسم من الله عز وجل، والواو: واو القسم، ولله أن يقسم بما شاء، وليس لنا أن نقسم إلا بالله، فأعظم عظيم هو الله، ومن أقسم بشيء فقد عظَّمه، وإذا أقسمنا بغير الله فقد عظمنا غير الله أعظم من الله.

وأقسم الله بقسم كثير في القرآن: أقسم بالنجم {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:١ - ٢].

ويقول أهل العلم: إن الله يقسم بما يوافق المقسم عليه، فالنجم إذا هوى هو مثل القرآن إذا تنزل، {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:١ - ٢] {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} [الشمس:١ - ٣] {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل:١ - ٢].

كلها أقسام من الله بما شاء من خلقه.

وهنا أقسم بالواو وفي سورة النحل: {تَاللَّهِ} [النحل:٦٣] أقسم الله عز وجل بالتاء، ويقسم بالباء، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: {لا ومقلب القلوب} ويقول: {والذي نفسي بيده} وهو الله عز وجل، ويقول: {وايم الله} وحرام أن يقسم أحد بغير الله، وقد أخطأ من أقسم بغيره سبحانه وتعالى.

يقول عمر في الصحيح رضي الله عنه وأرضاه: {أدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقول: لا وأبي -يقسم عمر بأبيه، وهو مع الصحابة- فقال عليه الصلاة والسلام -بياناً عاماً-: يا أيها الناس إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم}.

توحيدٌ في الكلام والعمل والفعل.

قال عمر: [[فوالله ما أقسمت بأبي آثراً ولا ذاكراً]] انتهى الأمر، أمة تمتثل الأوامر.

يقول عليه الصلاة والسلام: {يا أيها الناس اجلسوا} فسمع ابن رواحة وهو خارج المسجد فجلس، جلس في الطريق لأنهم يتلقون هذا التعاليم من هذا الرجل العظيم الذي لا {يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٣ - ٤].

وقد ضل من أقسم بغير الله، يقول أحدهم وهذه تغنى -للأسف- عند أهل المجون:

قسماً بمبسمك البهي

يقسم بمبسم محبوبه.

ويقول المتنبي في قصيدة له همزيه:

فومن أحب لأعصينك في الهوى قسماً به وبحسنه وبهائه

وهذه يضلل بها ويفجَّر ويرتكب إثماً عظيماً، وهذا منهجه، ولو أنه بقي على روعة القصيدة -لأنها من أحسن قصائده- لكان كفى، فيقول:

القلب أعلم يا عذول بدائه وأحق منك بجفنه وبمائه

لا تعذل المشتاق في أشواقه حتى يكون حشاك في أحشائه

فومن أحب، قال أهل العلم: لا حببه الله إلى خلقه، وقد فعل، يقسم بمحبوبته وهذا خطأ.

ومنهم من يقسم بحياته، وشرفه، ونجاحه، وأسرته، وكيانه وهذه كلها شرك في القسم، أما أدوات القسم فقد مرت معنا.

ما هو العصر؟

العصر قيل: هذا الوقت الذي صليناه، لأن وقت العصر شريف ووقته عظيم، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من صلى البردين دخل الجنة}.

والبردان: صلاة الفجر وصلاة العصر؛ لأنها تقع في وقت برد، والحديث في البخاري.

وصح عنه عليه الصلاة والسلام في البخاري أيضاً أنه قال: {من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله}.

قيل: عمل النهار، وقيل: أعماله الصالحة، وفاتته أي: تركها عامداً متعمداً حتى خرج الوقت.

وصح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث ابن عمر أنه قال: {من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله}.

أي: كأنما فاته وخسر أهله وماله، واحترق أهله وماله.

الرسول عليه الصلاة والسلام في الخندق، وهو يقاتل الأحزاب التي تجمعت عليه من الأحلاف الكفرية من اليهود والمشركين من قريش والمنافقين، كلهم تجمعوا عليه بالإجماع، قاتلهم ففاتته صلاة العصر ونسيها، فقال عمر بعد أن غربت الشمس: {يا رسول الله! والله ما صليت العصر حتى كادت الشمس تغرب، قال عليه الصلاة والسلام: وأنا والله ما صليتها، شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله قبورهم وأجوافهم ناراً} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

وقيل العصر: الزمن.

من الذي خلق الزمن؟ الله، وهو الذي خلق المكان وخلق الليل والنهار، يقول في أول سورة الأنعام: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:١].

بعد هذا كله الذين كفروا بربهم يعدلون، بعد الليل والنهار، وبعد الهواء والماء، وبعد السناء والضياء، وبعد الخلق والرزق، وبعد الإيجاد والإبداع، وبعد التصوير والتسوية، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وهذا هجوم أدبي في أول السورة، ويسمى اكتساح في أول الخطبة، ويسمى عند أهل الفكر الآن: نسف وإبادة.

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:١] وقال هناك في الفرقان: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:٦١ - ٦٢].

العصر: الزمن، لماذا أقسم الله به؟ قالوا: لأنه غالي، ولا يعرف العمر أنه غالي إلا المؤمن، أما المعرض عن الله فالزمن رخيص عنده -وهذا هو من كيس شوقي -:

دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني

فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثاني

<<  <  ج:
ص:  >  >>