للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[لتسألن عن النعيم]

{ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ} [التكاثر:٧ - ٨] هذه الآية من أعظم الآيات وكل ما أمدنا الله عز وجل به في الحياة الدنيا فهو نعيم، واختلف أهل العلم في أجلِّ نعمةٍ في الحياة، فقال أهل المنطق من الأشاعرة: أجلُّ نعمة نعمة الحياة، وخالفهم أهل الحديث وقالوا: أجلُّ نعمة نعمة الإسلام، ووافق ابن تيمية على هذا القول الثاني وهو الصحيح، فأجلُّ نعمة في الحياة هي نعمة الإسلام.

خذ كل شيء، إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عوضٌ من كلِّ هذه، وليس من الله عوض، من وجد الطريق إلى الله فقد وجد كل شيء، ومن فقد الطريق إلى الله فقد فَقَدَ كل شيء، من نام على الرصيف وما وجد إلا كسرة الخبز وقطعةً يواري بها عورته، ووجد الإيمان فقد ملك الدنيا، ومن ملك الدنيا ثم فقد الإيمان، فقد أصبح في لعنة وأمسى في غضب، قال تعال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:١٢٤ - ١٢٦] {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:٨]

النعيم على أنواع، ما هو النعيم؟

قيل: الماء البارد.

وهذا قول ابن عمر قال: [[تسألون عن الماء البارد]].

يوم تظمأ وتتحرق كبدك، وتريد أن تقدم كل شيء عندك لشربة ماء.

وقيل النعيم: هو السكن إلى الأهل، والرضا بالرزق مع الاستقامة.

وقيل النعيم: هو المدد بالجوراح وبالحواس فلا يطرقك حدث حتى تموت، وهذا من النعيم.

وقيل النعيم: هو ألا تطرقك طوارق الأحداث، وأن يتلطف بك في القضاء والقدر -وهذا من النعيم-.

وقيل النعيم: أن تسلم من فتنة الحياة (التفكير) وفتنة الابتلاء الذي يصل ببعض الناس إلى التسخط -وهذا من النعيم- والصحيح أن كل ما أعطاك الله عز وجل مما أمدك به فهو نعيم، ولكن النعيم قد ينقلب عند من لا يحسن استخدامه واستعماله إلى جحيم.

هذا أبو تمام يقول:

قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم

كتب علي بن أبي طالب أبو الحسن أمير المؤمنين إلى رجل يعزيه في ابنه قال له: [[يا فلان! إن احتسبت موت ابنك آجرك الله، وإن لم تحتسب موته سلوت بعد حين كما تسلو البهائم]].

انظر إلى العقل انظر إلى أستاذ الكلام، رجل العبارة، وأستاذ الكلمة الحارة (علي بن أبي طالب) يرسل الكلمات قذائف تصل إلى القلوب؛ يقول: إذا احتسبت موت ابنك كان نعيماً، وكان ثواباً لك عند الله، وإذا لم تحتسب سلوت بعد حين كما تسلو البهائم، فأخذ أبو تمام هذا المعنى وقال:

أتصبر للبلوى رجاءً وحسبةً فتؤجر أم تسلو سلوَّ البهائم

نعم.

البهيمة بعد حين تسلو عن فصيلها وعن ولدها، وهذا مثل بعض الناس يتسخط وقت موت الأب والابن والأخ، ويبكي، ويتذمر على القضاء والقدر، ويتعدى حدود الأدب، ولكن بعد أشهر يسلو كما تسلو البهيمة، فلا احتسب أجراً ولا جعله نعمةً وذخراً عند الله، ولا سلم من الذنوب والخطايا.

والنعم متنوعة: منها نعمة الابتلاء، ونعمة الرخاء، تليت هذه الآية في مناسبة صحَّ عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:٥] أنه قال: [[لا يرضى محمد وأحدٌ من أمته في النار]].

فأسأل الله عز وجل أن يرضي عينه، وان يقرَّ عينه بدخولنا في الجنة، لأنه رحيم يشفق على هذا الجيل، ويشفق على هذه الأمة يقول في صحيح البخاري عن أبي موسى: {آخذ بحجزكم، وتتهاوون كما تتهاوى الفراش في النار}.

يقول: لا تزنوا ولا تكذبوا ولا تغشوا ولا تخادعوا.

لكن كثيراً منا يخالفون أمره.

- حديث رسول الله: لتسألن عن النعيم:-

خرج عليه الصلاة والسلام ذات يوم جائعاً علَّه أن يجد طعاماً في أحد الأمكنة، يطلب رزق الله، فخرج أبو بكر جائعاَ، وخرج عمر الفاروق جائعاً، فقال عليه الصلاة والسلام: ما أخرجك يا أبا بكر؟ قال: الجوع يا رسول الله.

قال: وما أخرجك يا عمر.

قال: الجوع يا رسول الله.

سبحان الله! العظماء يجوعون، نعم يجوع العظماء، والذئاب والأسود تجوع، والكلاب تشبع من لحوم الضأن.

يقول الشافعي:

تموت الأسد في الغابات جوعاً ولحم الضأن تأكله الكلاب

ليس الحبق والتبجح والسخط من العظمة، إنَّ الحمار يأكل ما يعادل عشرة أنفس من الرجال لكنه حمار، وهذا مقدور ومقدر، الرزق يأتي ويذهب، والأكل يأتي ويذهب.

طول الحياة إذا مشى كقصيرها والعصر للإنسان كالإعصار

لكن العظمة في القلوب، فالعظماء يجوعون، عظماء الأمم جميعاً في المسلمين وغير المسلمين من أجوع الناس.

فخرج قال: والله ما أخرجني إلاَّ الجوع، اذهبوا بنا نلتمس طعاماً، فخرجوا إلىبيت أحد الأنصار الأبطال الأخيار الذين قدموا كل شيء للإسلام، قدَّموا عرقهم، وقدَّموا دماءهم، وقدَّموا أموالهم وأبناءهم، جزى الله الأنصار خير الجزاء! الله أكبر! يا للأنصار من مفخرة في الإسلام {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:٩] يقول بعض المفسرين: كان الأنصاري ينام جائعاً ويذهب بطعامه ويعطيه جاره، فيشبع الجار وينام وهو جائع.

هينون لينون أيسار بنو يسرٍ صيد بهاليل حفاظون للجار

لا ناطقون عن الفحشاء إن نطقوا ولا يمارون إن ماروا بإكثار

فجزاؤهم عند الله خير الجزاء، قالت عائشة المربية العالمة الصديقة بنت الصديق: والله ماضرَّ أحداً من الناس أن ينزل بأهله بجانب بيت من بيوت الأنصار، بكى أبو بكر بعد موت الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: يا معشر الأنصار! جزاكم الله خيراً من جيران، ما وجدنا والله مثلكم من جيران، ما مثلنا ومثلكم إلا كما قال طفيل الغنوي في أبيات لطيفة ظريفة، يقول:

جزى الله عنَّا جعفراً حيث أشرفت بنا نعلُنا في الشارفين فزلتِ

همُ خلطونا بالنفوس وألجئوا إلى غرفات أدفأت وأظلتِ

أبوا أن يملونا ولو أنَّ أمنا تلاقي الذي يلقون منا لملَّتِ

فخرج صلى الله عليه وسلم وصاحباه الشيخان، الكبيران، الجليلان، اللذان هما قطب الإسلام بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم ودخلوا المزرعة وما وجدوا الأنصاري، كان يذهب يأخذ ماءً من بئر له في المزرعة، فوجدوا أماً وداعيةً، ومستقبلةً، وامرأة عاقلة فهشت وبشت في وجه الوفد العظيم الذي ما دخل البيت أعظم منه، وأخذت ترحب حتى أخذت تبكي من الفرح تقول: والله ما أحسن منَّا ضيفاً هذا اليوم.

طفح السرور عليًّ حتى إنني من عظم ما قد سرَّني أبكاني

وأخذت ترحب ويسألها صلى الله عليه وسلم عن زوجها قالت: خرج يستعذب لنا الماء، ويأتي في هذا الوقت، فأتى الأنصاري، فلما سمع أن الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته أخذ يكبر فرحاً الله أكبر الله أكبر الله أكبر والله ما أحد أحسن منا ضيفاً هذا اليوم!!

تصور في ذهنك -أيها المسلم- يا صاحب اللوعة والحرقة على سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم تذكر أنك في بيتك وبين أطفالك ويطرق على بيتك طارق، فتفتح الباب فإذا محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وإذا أبو بكر وعمر ضيوفك، أيُّ مكتوب في الأذهان؟! أيُّ كنز يقدَّم إليك إن كنت مسلماً؟! ما سمع في الدهر بجائزة أعظم، ولا وسام أعظم من هذا، فيفتح ويتقدَّم ويأتي بسفرته، ويذبح الشاة وهذا الكرم العظيم:

تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله

فيشبع بطن المصطفى عليه الصلاة والسلام، بطن الذي ربَّى الأجيال، بطن الذي فتح الممالك بلا إله إلاَّ الله، بطن الذي أخرج الأساتذة والدعاة والعلماء والأدباء والقواد والشهداء، بطن الذي رفع لا إله إلا الله في طاشقند وسمرقند والهند والسند وكل بقعة على الأرض، فلما شبع قال: {والله لتسألن يوم القيامة عن هذا النعيم} هذا عليه الصلاة والسلام شبع مرةً في أشهر طويلة، ويتحرَّى السؤال من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وكم نسمع في اليوم والليلة ما كأن هناك وجبة تمر إلا بلحم، والوجبة التي تمر بلا لحم وجبةٌ نحاسب أنفسنا عليها، ونستغفر من تقصيرنا فيها، ما بقي إلا أن نسجد سجدة السهو إذا فات اللحم من وجبةٍ من الوجبات، كأنه قُرِّر علينا أنه لابدَّ أن يقدَّم اللحم على الموائد؛ حتى أصبحت بطوننا فتنة للحيوانات، تذبح بأصنافها ومطعوماتها من مثلجةٍ، وطازجةٍ، ومذبوحةٍ على الطريقة الإسلامية، والدانماركية، وعلى الإنجليزية، والفرنسية، وظلمات بعضها فوق بعض، والإنسان إذا لم يعرف أنَّ هذه نعم لا يقدرها، ولا يشكر الله عليها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

- مالك بن دينار يعظ رجلاً بالنعيم:-

اللقمة يوم ترفعها يسألك الله عنها لكن سؤال تقرير، يسألك الله يوم القيامة، أما إذا أكلت فشبعت قيل: نعم.

فماذا فعلت بالأكل؟

لأن كثيراً من الناس إذا أكل وشبع قام يرقص ويترك الصلاة، وإذا قيل له: لماذا لا تصلي؟ قال: إن لنفسك عليك حقاً! ألنفسك عليك حق في اللهو واللعب أما الصلاة فليس لها حق؟!

وكثير من الناس إذا أكل وشرب ذهب ليعصي الله عز وجل بطعامه وشرابه، ويمسك حدود الله، ويتجرأ على محرمات الله، ويلعب بآيات الله وقد أكل نعم الله، استظلَّ بسماء الله، ومشى على أرض الله، وشرب ماء الله، وعصى الله.

أتى رجل إلى مالك بن دينار أحد الدعاة الأذكياء أحد الدعاة الواجهات في الأمة الإسلامية فقال: يا مالك بن دينار! أنا تبت من كل ذنب إلا من ذنب واحد.

قال: تب إلى الله.

قال: جربت نفسي فما استطعت.

قال: فتب.

قال: فما استطعت.

قال: أجل، أسألك أسئلة.

قال: سل.

قال: إذا أردت أن تعصي الله فاخرج من أرضه، كيف تعصي الله في أرضه؟

رجلٌ يكرمك في بيته ويدخلك في بيته فإذا تغديت وتعشيت أخذت السوط تضرب أبناءه؛ فإذا قال لك هذا الرجل: أطعمتك وأسقيتك وأكرمتك وتضرب أبنائي؟! تقول: أنا حر أتصرف كما أشاء.

قال: اخرج من أرض الله.

قال: وأين أخرج والأرض أرض الله والملك ملك الله؟! قال: وإذا أردت أن تعصي الله فلا تأكل من رزق الله.

أتأكل نعم الله وتعصي الله؟! قال: من أين آكل ولا رزق إلا رزق الله.

قال: إذاً فإذا أبيت ذلك فحاول ألا يراك الله، اختفِ في مكانٍ لا يراك الله فيه، وأين يختفي الإنسان بين الجدران من الواحد الديان، بين الحيطان من الرحمن، بين البساتين والأشجار من الواحد القهار.

لا والله.

وإذا خلوت بريبةٍ في ظلمةٍ والنفس داعيةٌ إلى الطغيان

فاستح من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني

قال: لا أستطيع، الله يراني في كل مكان.

قال: فإذا أصريت على ذلك عصيت الله فحاول ألا يجدك يوم القيامة، فإنه إن وجدك عذبك عذاباً عظيماً.

قال: لا مفر ولا ملجأ ولا ملتجأ من الله إلى إليه، ثم أخذ يبكي وقال: أشهدك أني أتوب إلى الله.

<<  <  ج:
ص:  >  >>